مستنقع الاقتصاد النقدي "الكاش" وتخبّطات النجاة

نُشر هذا المقال في جريدة الجمهوريّة، في ٣-٩-٢٠٢٤. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

لا يزال لبنان غارقاً في مستنقع أزمته الاقتصاديّة غير المسبوقة التي تتسم بانخفاض كبير في قيمة الليرة اللبنانية، وتضخّم متسارع، وفقدان الثقة في النظام المصرفي. وفي هذه الكارثة، يضرب النظام الاقتصاديّ يميناً ويساراً لينقذ نفسه بأيّ طريقة، ومنها اعتماده على الاقتصاد النقدي "الكاش"، الذي فرضه واقعاً على الكثير من اللبنانيّين. فأضحى يؤدّي النقد دوراً محورياً في المعاملات اليوميّة، خصوصاً وأنّ النظام المصرفي لا يزال هو الآخر مشلولاً إلى حدٍّ كبير، ويواجه مشاكل خطيرة في الملاءة والسيولة، نظراً لمستوى الخسائر التي بلغت 75 مليار دولار أميركي في النظام المالي المحلّي.

كما لا تزال الميزانيات العمومية للمصارف التجارية غير متوازنة إلى حَدّ فاضح، حيث اختفت بشكل أساسي التزامات بقيمة 90 مليار دولار أميركي من ودائع العملاء، وأصول بقيمة 84 مليار دولار أميركي من ودائع المصرف المركزي. وحتى العام 2023، تمكّنت البنوك التجارية من الحفاظ على ربحيّتها بفضل عمليات صرف العملات الأجنبية على منصة صيرفة، وبوضع النقد بالعملات الأجنبية في الأسواق، على خلفية ارتفاع أسعار الفائدة.

كما أدّى إغلاق منصة "صيرفة" إلى جعل نموذج أعمال المصارف، في ظلّ غياب توليد الائتمان، أكثر هشاشة بكثير، ويبدو أنّ بعض الودائع بالدولار الأميركي تُستَخدم لتمويل النفقات الجارية لبعض البنوك. وبالتوازي مع الصعوبات التي يواجهها القطاع المصرفي، نشهد تطوّراً سريعاً في القطاع المالي غير المصرفي الذي يُعاني من ضعف التنظيم، أو عدم تنظيمه على الإطلاق، ممّا يثير أخطار كبيرة تتعلّق بالامتثال. بالإضافة إلى ذلك، تستمر "دولرة" الاقتصاد، ونموّ القطاع غير الرسمي الذي يعمل بالكاش. فقد ارتفعت كتلة الاقتصاد النقدي في لبنان من 4,5 مليار دولار أميركيّ في العام 2020 إلى 9,9 مليار دولار أميركي في العام 2022، وهو ما يُمَثِّل نسبة اقتصاد نقديّ تبلغ 46% من الناتج المحلّي الإجماليّ

من ناحية، وفي ظلّ اقتصاد تتآكل فيه الثقة في المؤسسات الماليّة بشدة، توفّر المعاملات النقدية ملاذاً للسرّية. فاللبنانيّون القلقون من عدم استقرار المصارف، وتبخّر مدخراتهم، غالباً ما يُفضِّلون النقد للحفاظ على سرّيّتهم المصرفية، وحماية أصولهم.

علاوة على ذلك، بالتزامن مع إغلاق العديد من المصارف، والقيود الصارمة المفروضة على السحب النقدي، أصبح الكاش أداة لا غنى عنها عند المواطنين، خصوصاً لدى أولئك الذين لم يَعُد بإمكانهم الوصول إلى الخدمات المصرفية. كما يمكّن النقد الجميع، بغضّ النظر عن وضعهم المالي، من الاستمرار في المشاركة في الاقتصاد.

وفي بيئة يتقلّب فيها التضخّم بسرعة، يساعد استخدام النقد الأفراد على إدارة شؤونهم المالية بوجهٍ أفضل. كما يسمح الاحتفاظ بالكاش بإحكام السيطرة على الإنفاق، وتجنّب الغرق في الديون في وقت ترتفع فيه أسعار الفائدة بمعدّلات كبيرة.

بالإضافة إلى ما ذُكِر، فإنّ الرسوم المصرفية المرتفعة، يُزاد عليها القيود الصارمة التي تفرضها البنوك، دفعت العديد من اللبنانيّين إلى تفضيل المعاملات النقدية. ولا تحمل هذه الأخيرة أي رسوم إضافية. ويبقى الكاش الوسيلة الأكثر أماناً والأكثر سهولة لإجراء المعاملات اليومية، ممّا يضمن استمرارية النشاط الاقتصادي.

من ناحية أُخرى، فإنّ زيادة تداول النقد يُعرِّض الأفراد إلى خطر السرقة بشكل كبير. ففي بلد يواجه أزمات أمنية داخلية في بعض الأحيان، يتعرّض المواطنون والمواطنات إلى خطر فقدان مدّخراتهم، من دون إمكانية استردادها أو تعويضها.

كما يفرض الاستخدام المكثّف للنقد تكاليف كبيرة على الحكومة من أجل طباعة العملة وتوزيعها وإدارتها. كذلك، يغذّي الاقتصاد النقدي في لبنان الاقتصاد غير الرسمي، فلا يتمّ الإبلاغ عن العديد من المعاملات. وهذا يقلّل من الإيرادات الضريبية الحكومية، ممّا يزيد من تعقيد إدارة الأزمة الاقتصاديّة، ويَحدّ من قدرة الدولة على توفير الخدمات الأساسية.

ويؤدّي عدم إمكانية تتبع المعاملات النقديّة إلى تعقيد مكافحة الفساد، وتبييض الأموال وغيرها من الأنشطة غير المشروعة. ويعزّز هذا الغموض مناخ الإفلات من العقاب الذي يقوِّض فعالية الإصلاحات الاقتصادية والمالية.

كذلك، في ظلّ اقتصاد عالمي يزداد رقمنةً، يمكن أن يؤدّي الاعتماد الحصريّ على النقد إلى عزل اللبنانيّين عن الفرص الاقتصادية العالمية. كما أنّ الخدمات المالية الرقمية، والاستثمارات عبر الإنترنت، والتحويلات الدولية، تصبح غير متاحة، ممّا يفاقم العزلة الاقتصادية للبلاد.

هكذا، بات الاقتصاد النقدي سمة لا مفرّ منها في لبنان اليوم، حيث يُقدِّم مزايا ضرورية، ومساوئ ملحوظة في سياق الأزمة العميقة. وفي حين أنّ النقد يُمكِّن اللبنانيّين من البقاء على قيد الحياة في بيئة غير مستقرّة، إلّا أنّه يُديم بعض التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية. لذلك، فإنّ تحقيق التوازن بين استخدام النقد، والإدماج التدريجي للحلول المالية الرقمية، يمكن أن يكون وسيلة واعدة لمساعدة لبنان على الخروج من أزمته الحالية مع بناء اقتصاد أكثر مرونة وشمولية. فهل يَعي القائمون على التخطيط المالي والاقتصادي في لبنان إلى هذه الحيثيات؟ أم أنّ السيولة المُدَولرة تغزّي طموحاتهم في جمع المزيد من الكاش الأخضر من دون المرور بالنظام المصرفي الرسمي؟ أم أنّهم سيتخبّطون إلى ما لا نهاية في وحول المستنقعات، فيغرقون ويُغرِقون معهم ما نجا من الاقتصاد اللبناني؟