الزراعة في لبنان عندما "كان غير شكل الزيتون"

نُشر هذا المقال في موقع ليبانون ٢٤، في ٢١-١١-٢٠٢٤. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

يشاهد متابع شاشات التلفزة ووسائط التواصل الاجتماعيّ مسلسل الدمار في لبنان، وخصوصًا في جنوبه وبقاعه... ويروّعه مشهد المباني التي تتعرّض للهدم الكامل، إذ تتساقط مثل أحجار الدومينو في بعض الأحياء. إلّا أنّه في الظلّ، ثمّة ما يعصر القلب ويحرقه أيضًا... ونقصد ثروة البلد الزراعيّة وتضرّرها بوجهٍ كبير ولو بطريقة غير مباشرة.

فنعلم أنّ القطاع الزراعيّ يعاني منذ عقود في مواجهة أزمات لبنان المتعدّدة الأطياف، منها الأمنيّ، والسياسيّ، والاقتصاديّ، وعدِّد ولا حرج... لكن، في المشهد الحالي الذي قارب على الشهرين، لا نجد استهدافًا مباشرًا له، ونعتقد أنّه بمنأى عن رحى الحرب الدائرة، فلا مشاهد لاقتلاع أشجار، ولا حرق بيادر، وكلّ تلك الصور التي تنتشر انتشار النار في الهشيم على الإعلام.

إنّ موت القطاع الزراعيّ ليس مفاجئا، بل موت بطيء يبدأ ويكبر مع عجز المزارع اللبنانيّ عن إيجاد سبل الحفاظ على موارده التي يكسب قوته منها بعرق جبينه وقوّة ساعديه. ففي البقاع حيث حوالى نصف الأراضي اللبنانيّة المزروعة، يواجه المزارع صعوبات في التنقّل، وتصريف منتوجاته، بعد أن كان العماد الأساسيّ لضمان الأمن الغذائيّ الوطنيّ. وفي الجنوب، يتعرّض لموجات تهجير جماعيّة قسريّة، تُرِكت بساتين زيتونه وحقول حمضيّاته وحيدة، وفقدت أهمّيّتها كونها موردًا اقتصاديًّا رئيسيًّا للعديد من الأسر الجنوبيّة.

لقد كان القطاع الزراعيّ من أعتى القطاعات مقاومةً للأزمات، وعرف كيف يتأقلم مع الظروف، لا بل يقلبها لمصلحته، فاستفاد مثلًا من النزوح السوريّ، كي يستثمر في أيديه العاملة وحافظ على نوع من التوازن بين احتياجات السوق، والموارد المحلّيّة لأهمّ المحاصيل الزراعيّة الأساسيّة.

لم تكن هجرة المزارعين المحلّيّين أولى الهجرات الّتي تعرّضت لها أراضي لبنان... فهناك هجرة رؤوس الأموال مع الأزمة المصرفيّة، والحراك السياسيّ في العام ٢٠١٩. كما تعرّض هذا القطاع للخيانة مرّتين... الأولى في غياب "إسناده" بالدعم المادّيّ الذي يحتاج إليه من ائتمان للحصول على الواردات من المستلزمات الزراعيّة مثل البذور والأسمدة والمبيدات وأنظمة الريّ. والثانية في غياب "إسناده" بالدعم المعنويّ، عندما أصبح أضحوكة، واستُخفّ به عندما خُيّل لبعضهم إمكانية حصره على "البلاكين" وهو يحتاج كلّ السند لينمو ويعزّز معه استقرار لبنان الاقتصاديّ والتجاريّ والجيوسياسيّ.

إنّ الوضع الحالي يعرقل بشكل خطير الدورة الزراعيّة في لبنان، ولا سيما تلك البقاع التي تُزرَع فيها نسبة كبيرة من ثروة البلاد الخضراء. وفي ظلّ سياسة الأراضي المحروقة المنتَهجة جنوبًا، سيتعثّر، بل سيستحيل عودة المزارعين لحصاد محاصيلهم، وستتعقّد عمليّة نقل المنتجات الزراعيّة إلى الأسواق، أو تصديرها. من دون أن نغفل حقيقة تعرّضها للمواد السامّة ومخلّفات القذائف والصواريخ.

عادةً ما تأتينا الحلول من الخارج، لا على الصعيد السياسيّ الصرف وحسب، بل على الصعيد الاقتصاديّ الذي تقرّه الدول المانحة بحسب أهوائها وتفضيلاتها. لكن، نعرف أنّه "كان غير شكل الزيتون"... فواقعيًّا، يفقد لبنان ثقة هذه الدول من ناحية، واهتمامها من ناحية أُخرى في ظلّ تعنّت بعض الأطراف السياسيّة بالتوجّه عكس مصالح أهل البلد. وإذا افترضنا الأسوأ، أليس بالحري أن نضع استراتيجيّة متماسكة على المستوى الوطنيّ للإصلاح التشريعيّ، والمؤسّساتيّ؟ إذ يحتاج القطاع الزراعيّ في لبنان إلى إصلاحات هيكليّة بعيدة المدى، تتجاوز الحلول المؤقّتة أو الاستراتيجيّات التي يمليها المانحون.

ختامًا، في ظلّ حرب لا تُظهِر أيّ علامة على التراجع،يجد الكثير من اللبنانيّين "إسنادهم" في اعتمادهم على البساطة، ويا عيني على "البطاطا"... يفتقرون فيها إلى مقوّمات غذائيّة أساسيّة في بلدٍ من أغنى البلدان المتوسطيّة في موائده وموارده الزراعيّة... وتصبح "التبّولة" حلما ونخشى أن نسمع اللبنانيّين يُكملون أغنية فيروز... "يا ضيعانن راحوا... شو ما صار لكن راحوا"، وهم يتأمّلون بحسرة ثرواتهم الزراعيّة...