العملات المشفّرة – آفاق ماليّة
ومستقبل محفوف بالمخاطر

نُشرت هذه المقابلة في مجلّة البيان الاقتصاديّة، في العدد رقم ٦١١، الصادر في تشرين الأوّل ٢٠٢٢. لقراءة المقابلة في المجلّة، اضغط هنا.

عرفت العملات المشفّرة عصرًا ذهبيًّا في ظلّ تعثّر الأسواق الماليّة إثر تفشّي جائحة كوڤيد-١٩. لكن، بعد ظهور بعض المخاطر الأمنيّة، فقدت هذه العملات قدرًا كبيرًا من الثقة، بعد أن شكّلت الملاذ الآمن في الأزمات الاقتصاديّة. على الرغم من ذلك، يبقى تحكّم الدول بالعمليّات الماليّة التقليديّة، كفرض الحجز على الودائع، وعجز المواطنين عن القيام بأبسط العمليّات الماليّة أمرًا غير مستحبّ. لذلك، ما زلنا نجد ميل شريحة إلى التعامل بالعملات المشفّرة لأنّها لا تقع تحت تحكّم السلطات المركزيّة، وكذلك سهولة الحصول عليها بالمقارنة مع العملات التقليديّة الورقيّة. 


هل يمكن أن تتوسّع دائرة الاستفادة من العملات المشفّرة لتضمّ شريحة أكبر من المستثمرين؟

- أجل، لكن ثمّة تحدّيات تقيّد تبنّي بعض فئات المجتمع العملات المشفّرة، فهُم يعانون أحيانًا من صعوبة الحصول على التمويل، والافتقار إلى البنى التحتيّة الأساسيّة للتعامل بهذه العملات. كذلك، أبرزت بعض الدراسات الّتي طُبقت في أثناء الأزمات الاقتصاديّة، أنّ ثمّة ميل متصاعد لدى المواطنين لتبنّي العملات المشفّرة عندما تكون عملتهم المحلّيّة محاصرة، كما حصل في الأرجنتين أو اليونان، ممّا أدّى إلى ارتفاع أسعار تلك العملات في الأزمات الماليّة المنصرمة الّتي ضربت جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من تقلّب قيمة العملات المشفّرة، وهي نقطة ضعفها الأكبر، إلّا أن الكفّة تميل لصالحها أمام العملات التقليديّة عندما نقيس أخطار المصادرة، وسهولة النقل والتجزئة، ودرجات الأمان إلى حدٍّ بعيد.

بالطبع، كما لا يمكننا حسم النقاش الدائر حول العملات المشفّرة، فهي وإن أظهرت في هذه الأيّام تراجعًا حادًّا في قيمتها، إلّا أنّها تشكّل أدوات ماليّة مفيدة غير محصورة بالخبراء وكبار المستثمرين وحسب. كذلك، تمكّن هذه العملات على النموّ الاجتماعيّ والاقتصاديّ، خصوصًا في البلدان النامية، إذ أنّها تسهّل الوصول إلى رؤوس الأموال والخدمات الماليّة.  .

ما هي تلك الإمكانات أو الميزات الّتي تقدّمها العملات المشفّرة للمجتمع؟

- نعرف اليوم مجالاتٍ اقتصاديّة تقوم بكاملها على العملات المشفّرة، فثمّة مؤسّسات تُشرف على عمليّات صرفها وتداولها في جميع أنحاء العالم. فالبيتكوين على سبيل المثال، ساعدت على تطوير عمل بعض الأفراد والشركات وازدهارها، كذلك تعتمد بعضها على المتاجرة بها لتمثّل مصدرًا لدخلها. ويمكننا أن نستعرض بعضًا من تلك الميزات.

١. فرص أوفر للفقراء: تُشير الإحصاءات إلى أنّ أكثر من ٣٠٪ غير قادرين على الوصول إلى الخدمات المصرفيّة الأساسيّة الّتي من شأنها أن تساعدهم على التعامل مع مشكلاتهم الماليّة. لذلك، نجد أنّ توافر الكثير من التطبيقات يسهّل استعمال العملات المشفّرة، وهكذا يتوسّع استخدامها في ظلّ توسّع لا مركزيّتها أيضًا.

٢. تكلفة أقلّ: بالطبع، إنّ العمليات المؤتمتة جعلت الحاجة إلى الموظّفين أقل، وبالتالي أجور أقل، ومنفعة ربحيّة أكبر، ممّا يشجّع الكثير على تبنّي هذه الأدوات الماليّة الجديدة يومًا بعد يوم.

٣. التعامل بشفافيّة أكبر: أصبح تعقّب عمليّات العملات المشفّرة أكثر شفافيّة لأنّها جميعها "مرقمنة" في سجلّات الحسابات. كما أصبح التلاعب بها أمرًا شبه مستحيل، ممّا أدى إلى انخفاض أخطار الفساد والاحتيال. وأكثر من ذلك، يستطيع المواطن اليوم أن يتعقّب كيفيّة توجيه الأموال العامّة، ممّا يُعزّز دوره الرقابيّ.

٤. دعم روّاد الأعمال: إذ تساعدهم على استقبال المدفوعات ضمن طيف واسع من العملات، لذلك أصبحت الأعمال الصغيرة والمتوسّطة تحصل على تغطية ماليّة أفضل، خصوصًا بعد تحرّرها من ناحية التواصل الماليّ مع العالم ككلّ.    

ما هي عيوب العملات المشفّرة الأساسيّة؟

- رأيُنا أنّ ثمّة شريحة، تتّسع وتضيق بحسب الظروف والمناخات الاقتصاديّة وعوامل الثقة، تفضّل التخلّص من عملاتها الوطنيّة المتدهورة لصالح عملات رقميّة لا تخضع لسيطرة مركزيّة رغم مخاطرها وسلبيّاتها. فعرفت في الآونة الأخيرة انحدارًا كبيرًا في قيمتها في هذه الأثناء، كما أن بعض العملات قاربت قيمتها الصفر، وانحسر التداول الاجماليّ للعملات المشفّرة إلى أكثر من النصف في شهر أيّار ٢٠٢٢.   لذلك، نجد أنّ عيوب العملات المشفّرة الأساسيّة تكمن في أنّها غير مدعومة، أو مشرّعة، أو مضمونة حكوميًّا. بالإضافة إلى أنّ عمليّات السرقة والقرصنة الّتي حصلت في الآونة الأخيرة لم تجعل عمليّة استرداد هذه الأموال مستحيلة وحسب، بل أنّها دفعت بعامل الثقة، ومن ثمّ قيمة العملة إلى تدهورٍ سريع. كما أنّ مسألة تشريعها تُزيد من عامل الضبابيّة في التعامل بها، وينعكس سلبًا على إيرادات الدولة، وصعوبةً على تطبيق اللوائح التنظيميّة. والأمر الأشدّ تعقيدًا هو كيفية إيجاد البديل لتمويلها إذا قررت الحكومات دعم الانتقال إلى العملات المشفّرة.

هل من أخطار أمنيّة لهذه العملات؟ 

- بالطبع، فمع ظهور التكنولوجيا الماليّة، ظهرت معها أخطار جديدة، وهي أدّت إلى فتح باب افتراضيّ للأنشطة التجاريّة التخريبيّة. فثمّة حقيقة لا يمكن تفاديها، هي مرافقة التقنيّات الماليّة عمليّة توسّع في القرصنة الرقميّة وإمكانيّاتها. فعالم العملات المشفّرة استطاع تخطّي الحدود الجغرافيّة والجمركيّة، وبدت الرقابة غائبة عن ساحة التداول بين البلدان، وهذا ما أدّى إلى زعزعة الثقة بسيادة الدول نفسها لأنّها المؤتمنة على ضمان الاستقرار الماليّ ونزاهة العمليّات الماليّة. لذلك، نجد أن بعض الحكومات قد بدأت العمل على تفادي هذا المأزق بإعادة تنظيم السلطات القضائيّة، وهيئات حماية البيانات، والتفكير معمّقًا بالأنظمة الضريبيّة لتتأقلم مع الحالة الجديدة الّتي فرضتها العملات المشفّرة والرقميّة، وأصبحت الحكومات تبحث عن تعاون أمتن بين السلطات الرقابيّة، والمؤسّسات الماليّة الّتي تتعامل بالتكنولوجيا الماليّة.

ختامًا، نرى أنّه في خضم الأنظمة الاقتصاديّة الفاشلة أو المتعثّرة تزداد حدّة القلق لدى عموم الشعب، لخوفهم من خسارة "كلّ شيء". وفي حين برزت العملات المشفّرة كملجأ مناسب للادّخار إلى حين تعافي المنظومات الاقتصاديّة العالميّة، نجدها اليوم أشدّ تقلّبًا من البنوك التقليديّة، ممّا يُزيد بوجهٍ كبير خطر الخسارة لدى من يختارونها.