الرفاهيّة الماليّة... تحقيقها واستدامتها

نُشرت هذه المقابلة في مجلّة البيان الاقتصاديّة، العدد ٦٢٨، آذار - نيسان ٢٠٢٤. لقراءة المقابلة في المجلّة، اضغط هنا.

تُقاس سلامة الخدمات المصرفيّة بمدى قدرتها على التأقلم والمرونة، وتُعدّ عمليات اندماج المصارف والاستحواذ عليها أحد الأدوات التي تضمن حيويّة القطاع المصرفيّ في أيّ بلد. لذلك، قابلنا البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ لتحدّثنا عن الدور الأساسيّ لأنشطة الاندماج والاستحواذ، ومزاياها وخصائصها، وأهمّيّتها في فترات الاضطراب الماليّ كالتي تعيشها بعض دول الشرق الأوسط اليوم. 

- بدايةً، لماذا الاندماج والاستحواذ المصرفيّ؟ وما هي ميزاتهما؟

- تجد المؤسّسات المتعثّرة بسبب الأزمات الماليّة مصدر دعم بالاندماج مع المؤسّسات التي تتمتّع بوضعٍ سليم. وتساهم مثل هذه العمليات في استقرار النظام الماليّ عمومًا، ومنع المخاطر التي تُصيب النظام المصرفيّ خصوصًا، وضمان استمراريّة تقديم الخدمات الماليّة الأساسيّة. 

إنّ أهمّ هذه الميّزات هي فعاليّة التكاليف. فتؤدّي هذه الخطوات إلى تكامل التكاليف وحصرها بشكلٍ عامّ. كذلك، تقود إلى تعزيز الكفاءة التشغيليّة، وتحسين نسب الربح لدى المصارف التي تسعى إلى اعتماد المرونة في الظروف الماليّة والاقتصاديّة العصيبة. بالإضافة إلى إمكانية تنويع المحافظ الماليّة، وضمان تدفّق إيرادات متوازنة، وإمكانيّة التعاطي المرن مع تقلّبات السوق. ويُضاف إلى ما ذُكِر، توسيع الحصص السوقيّة لتلك البنوك.

- هل عمليات الاندماج أو الاستحواذ أمر نادر ومقترن بالأسواق الصغيرة؟

- لا بالعكس، فقد شهد العالم المصرفيّ علميات اندماج ضخمة كاستحواذ "بنك أوف أميركا" على "ميريل لينش" في إثر الأزمة الماليّة العالميّة نهاية العام ٢٠٠٨، واعتبر هذا الاستحواذ لحظة تحوّل مفصليّ، وقد بلغت قيمة الصفقة ٥٠ مليار دولار أميركيّ، وجعل من "بنك أوف أميركا" مصرفًا رائدًا في مجال الخدمات المصرفيّة الاستثماريّة. ونذكر أيضًا استحواذ "ويل فارغو" على "واشوفيا" في خضم الأزمة الماليّة ممّا جعل الأوّل أكبر مصارف الولايات المتّحدة الأميركيّة، عن طريق تنوّع أعماله، وزيادة مدى مرونته وسط بيئة اقتصاديّة تعجّ بالتحدّيات. 

- هل كانت ردّات الفعل إيجابيّة على الدوام؟ هل من أرقام تؤيّد هذه العمليات؟

- في الحقيقة، لم تُستقبل عمليات الاستحواذ والاندماج بإيجابيّة دومًا، وقبل عشر سنوات ساد نوع من اليأس في أوساط المستثمرين والمستشارين الماليّين، خصوصًا مع فقدان سوق عمليات الاندماج والاستحواذ العالميّة حوالى ٦٦٪ من قيمتها بين العامَين ٢٠٠٨ و٢٠١٣ مع الركود الاقتصاديّ العالميّ السائد. إلّا أنّه مع بداية العام ٢٠١٥ ظهرت موجة تفاؤل لدى المصارف الاستثماريّة، وتجاوز سوق الاندماج العالميّ حاجز الـ ٣ تريليون دولار أميركيّ. وامتدّت هذه العمليّات إلى القطاعات الصناعيّة التي أوجدت بدورها في تلك الفترة أحد أكبر الشركات المنتجة للأسمنت بعد اندماج "لافارج" الفرنسيّة مع "هولسيم" السويسريّة، بمبيعات سنويّة بلغت ٤٠ مليار دولار أميركيّ. 

- هل من دور للتكنولوجيا الماليّة في هذه العمليات؟

- بالطبع، فالتكنولوجيا الحديثة توفّر للمصارف المستحدثة قدرة أكبر في السوق، وتعزّز الأدوار المحوريّة في القطاعات المصرفيّة. فالاندماج مع البنوك التي تعرف تقدّمًا تقنيًّا في العمليات الماليّة، يسمح لهذه الكيانات المصرفيّة بمواكبة التغيّرات التكنولوجيّة المتسارعة، ويضمن لها لحاقها بالابتكارات الجديدة، واستخدامها في تقديم الخدمات الماليّة، وضمان بقائها على سلّم التصنيفات القياسيّة. وتُعتبر التكنولوجيا الماليّة تحدّيًا كبيرًا للمصارف كافةً في المشهد دائم المتطوّر. 

- هل من أمثلة خاصّة بمنطقتنا؟ وهل ثمّة بلدان أشدّ احتياجًا لعمليات الاندماج المصرفيّة؟

- أجل، لنأخذ لبنان مثالًا، إذ واجه القطاع المصرفيّ اللبنانيّ تحدّيات كبيرة في الفترة المنصرمة، وقد تضاعف أثرها بسبب عدم الاستقرار السياسيّ من جهة، والاضطرابات الاقتصاديّة من جهة أُخرى، ممّا أدّى إلى تدهور قيمة العملة المحلّيّة. لذلك، تبرز عمليات الاندماج والاستحواذ في لبنان كوسيلة مهمّة لتوحيد الموارد، وتعزيز الميزانيّات العموميّة. 

وعلاوة على ما ذُكر، تشتدّ أهمّيّة التكيّف مع التغييرات التنظيميّة، إذ يمتاز القطاع المصرفيّ اللبنانيّ ببيئة تنظيميّة ديناميكيّة، ممّا يؤكّد ضرورة الامتثال للتوجيهات الصادرة عن المصرف المركزيّ "مصرف لبنان". ولا سيّما بتوافر الوسائل عن طريق التحالفات الإستراتيجيّة، التي تساعد على تلبية الاحتياج إلى رأس المال، والمعايير التنظيميّة المختلفة. 

- عمليًّا، ما الإجراءات أو القوانين والتعاميم الّتي قام بها مصرف لبنان، لتعزيز هذه العمليّات؟

- نجد أنّ أهمّ التعاميم الصادرة من مصرف لبنان، قد تناولت بشكلٍ مباشر أو غير مباشر مسألة اندماج المصارف. فهي تتناول إعادة هيكلة المصارف والمؤسّسات الماليّة. وقد تمّ ذكر عمليات الاندماج بشكل صريح كوسيلة لإعادة الهيكلة، وتوفِّر بعض التعاميم إطارًا تنظيميًّا للبنوك التي تفكِّر في مثل هذه التحرّكات العمليّة. كما تُحدِّد المبادئ التوجيهيّة للمصارف من أجل مواجهة التحديّات المتعلّقة بالسيولة، والتعامل بالعملات الأجنبيّة. كذلك، تُشدّد على ضرورة قيام المصارف اللبنانيّة بتعزيز مراكزها الرأسماليّة. وتُمثّل عمليات الاندماج وسيلة استراتيجيّة لتلبية متطلبات رأس المال هذه، حيث تشجِّع التعاميم البنوك على استكشاف خيارات الدمج لتعزيز وضعها الماليّ.

- ختامًا، هل من توصيات تشاركينها بخصوص هذه الإجراءات؟

- نتوقّع أن تتضمَّن عمليّة إعادة الهيكلة العامّة للبنوك خطوات اندماج مهمّة في المستقبل القريب. ومع ذلك، نجد أنّ القيود القانونيّة الحاليّة المرتبطة بالاعتبارات الماليّة والضريبيّة، تجعل مثل هذه الخطوات غير عمليّة. لذلك، يجب تسهيل عملية إعادة الهيكلة، بإصدار قانون خاصّ يتناول القضايا الماليّة والضريبيّة. ممّا سيشجِّع مشاركة المستثمرين وخصوصًا في منطقة الشرق الأوسط في الجهود الرامية لإعادة الهيكلة، وتوفير سُبل للبنوك من أجل التغلّب على التحديّات، والاستفادة من الفرص الجديدة، فتعود الثقة بالقطاع المصرفيّ بوجهٍ عامّ، واللبنانيّ بوجهٍ خاصّ، الأمر الذي قد يُترجم كبادرة لحلّ الأزمة الماليّة في المنطقة.