الاندماج الماليّ والتكنولوجيا الماليّة: سبلٌ لانتعاش اقتصاد لبنان

نُشر هذا المقال في مجلّة المشرق الرقميّة، في ١٦-٦-٢٠٢١. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

١. مقدّمة

إنّ بزوغ التّقنيّات وانتشارها الواسع يُغيّران على وجهٍ كبير عادات النّاس حول العالم وظروف عيشهم. ترافقت الثّورة الرّقميّة مع ابتكاراتٍ كانت تارةً استمراريّة لِما سبقها، وطورًا طفرةً، وقفزةً نوعيّة. على الصّعيد الماليّ، إنّ الغاية من التّكنولوجيا الماليّة هي إيجاد خدمات تلبّي المتطلّبات الجديدة لدى المستهلك، وتهدف إلى تشجيع التحاق أولئك المستبعدين، بحكم الأمر الواقع، وإعادة تأسيس النُّظم الماليّة. 

يُعدّ لبنان من الدّول الواعدة لركوب موجة التّكنولوجيا الماليّة، خصوصًا بآليّات الدّفع عبر الهاتف المحمول، أو الأموال المتنقّلة (Mobile money). فقد شهدت طرائق الأموال المتنقّلة في الآونة الأخيرة تطوّرًا سريعًا في خدماتها الّتي تقدّمها إلى الأشخاص أو الشّركات، مستفيدة من عدد أجهزة الهاتف المحمول المتزايد ضمن البلد الواحد. تعالج تكنولوجيا الأموال المتنقلّة مسائل عديدة في لبنان، بما فيها الاندماج الماليّ الّذي يُعدّ عاملًا مهمًّا في خفض مستوى الفقر، وتمكين النّموّ الاقتصاديّ في لبنان. فما دور التّكنولوجيا الماليّة ومساهمتها الفعليّة في الاندماج الماليّ لدى المواطنين؟ وما هي التّحدّيات الّتي يواجهها تعزيز التّكنولوجيا الماليّة في لبنان، خصوصًا في ظلّ أزمته الماليّة والاقتصاديّة الدّقيقة؟ 

٢. نظرة عامّة على التّكنولوجيا الماليّة والاندماج الماليّ

٢. ١ ما هي التّكنولوجيا الماليّة (Fintech)؟

يرتبط مصطلح التّكنولوجيا الماليّة عادة بظاهرة الثّورة الرّقميّة، والتّحوّل الرّقميّ، والاقتصاد الخدميّ (Uberization). لكن هل التّكنولوجيا الماليّة القائمة على الاقتصاد الـمُخَلخل تساهم حقًّا في الاندماج الماليّ، خصوصًا في بلدٍ مثل لبنان؟ 

في التّعريف بهذه التّكنولوجيا، إنّها مفهوم مشتقّ كما هو جليّ من ارتباط التّكنولوجيا بالعمليّات الماليّة، ويُشير ذلك إلى استخدام التّقنيّات الجديدة لتطوير المنتجات والخدمات الماليّة المتوافرة، وتقديم أدوات جديدة أو مقاربات مستحدثة كي تلبّي احتياجات العملاء[1]. لم يُصبح هذا المفهوم شائعًا إلّا بين العامين ٢٠١٤-٢٠١٥، كما لوحظ في مجلّة The Pulse of Fintech [2] الّذي أشار إلى هذا المفهوم بالتّكنولوجيا الماليّة في سجلّات جمع التّبرّعات في العام ٢٠١٥. وقبل وصولها إلى المرحلة الحاليّة، عرفت التّكنولوجيا الماليّة ثلاث حقبات رئيسيّة في تطوّرها بحسب أحد الأبحاث[3]

أ. المرحلة الأولى (١٨٦٦-١٩٦٧): وهي حقبة الانتقال من التّقنيّات التّناظريّة (Analog) إلى الرّقميّة.

ب. المرحلة الثّانية (١٩٦٧-٢٠٠٨): وهي الحقبة الّتي بدأ فيها بنك (Barclays) في المملكة المتّحدة بتقديم خدمة الصّرف الآليّ (ATMs) في العام ١٩٦٧.

ج. المرحلة الثّالثة (٢٠٠٨ – إلى يومنا الحاضر): مع بداية الأزمة الاقتصاديّة العالميّة عرفت التّكنولوجيا الماليّة منعطفًا حاسمًا في تطوّرها، وبدأت معها المرحلة الثّالثة. في الواقع، إنّ الإصلاحات في نهاية الأزمة الاقتصاديّة الماليّة، وانعدام الثّقة بين المواطنين تُجاه البنوك، والبنوك فيما بينها[4]، وتعزيز التّدابير الاحترازيّة تُجاه المصارف، ورغبتها في تخفيض التّكاليف باستخدام التّكنولوجيا، شكّلت جميعها عوامل محفّزة لبزوغ التّكنولوجيا الماليّة وتطوّرها كما نعهدها اليوم.  

شملت هذه المراحل الأساسيّة ابتكار ويلثفرونت (Wealthfront) في العام ٢٠٠٨ الّذي يقدّم خدمات استثماريّة آليّة، وانطلاقة العملة المشفّرة بيتكوين[5] (Bitcoin) في العام ٢٠٠٩، وانطلاقة منصّة التّمويل الجماعيّ كيكستارتر (Kickstarter) في العام نفسه في الولايات المتّحدة الأميركيّة، كما أصبحت عمليّات التّحويل الماليّ من شخص إلى آخر (Peer-to-peer) ممكنة منذ العام ٢٠١١ بواسطة ترانسفروايز (Transferwise). 

تغطّي التّكنولوجيا الماليّة قطاعات عديدة: السّداد والتّحويل الماليّ بواسطة الأجهزة المحمولة، والاقتراض بين الأقران (Peer-to-peer)، والنُّظم المصرفيّة المستحدثة (Neo-Banking)، وسلسلة الكتل (Blockchain)، والعملات المشفّرة، وخدمات التّأمين وإعادة التّأمين وأدواتها، وإدارة الأصول. في الواقع، إنّ صناعة الهواتف المحمولة اليوم تُعدّ جزءًا من النّظام الماليّ الاقتصاديّ، وتخفيف العوائق أمام تكامل الطّرف الثّالث عبر نشر التّكنولوجيا الماليّة، وتجنيد النّظام الاقتصاديّ كلّيًّا نحو رقمنة الخدمات الماليّة، هذه جميعها تؤدّي دورًا مهمًّا في تمكين الاندماج الماليّ. 

٢.٢ ما هو الاندماج الماليّ (Financial Inclusion)؟

يُعرَّف الاندماج الماليّ بحسب البنك الدّوليّ بأنّه: "مقدرة الأفراد والشّركات على الوصول وبتكاليف أقلّ إلى طيف من المنتجات والخدمات الماليّة المفيدة والملائمة: (التّحويلات، وعمليّات السّداد، والادّخار، والائتمان، والتّأمين) الّتي يقدّمها مزوّدون مسؤولون وموثقون." ثمّة أربعة عناصر تحدّد الاندماج الماليّ بحسب البنك الدّوليّ، وهي كالآتي: 

• سهولة الوصول إلى المنتجات والخدمات الماليّة. 

• استخدام المنتجات والخدمات الماليّة.

• نوعيّة المنتجات والخدمات الماليّة المقدّمة.

• مدى تأثير المنتجات والخدمات الماليّة المقدّمة على الأفراد والأعمال.

يجب جمع العناصر الأربعة المذكورة معًا، لتحقيق نجاح الاندماج الماليّ الّذي يعرض مزايا متعدّدة للأفراد والأعمال وللنّظام الاقتصاديّ ككلّ. 

لا يُعدّ مؤشّر النّموّ الاقتصاديّ المقياس الأمثل والأكثر تشجيعًا في هذه الأيّام، بسبب التّداعيات الاقتصاديّة الّتي سببتها جائحة كوفيد-١٩ والّتي لا مناص من تأثيرها على الاقتصاد العالميّ، وخصوصًا على النُّظم الاقتصاديّة في بلدان كثيرة في الشّرق الأوسط على المدى القريب والمتوسّط. لذا، بات من الضّروريّ والواجب إيجاد طرائق مبتكرة ومستدامة، لمعالجة الفقر والتّحدّيات الاجتماعيّة-الاقتصاديّة الأُخرى في المنطقة وفي لبنان. 

إنّ قطاعات التّكنولوجيا الماليّة يمكن أن تبرز، كونها حلًّا بين الحلول الّتي تعالج المشاكل المذكورة سابقًا، بواسطة الاندماج الماليّ الّذي تعزّزه. لذلك، ثمّة احتياج كبير إلى قياس الإمكانات الّتي يقدّمها الاندماج الماليّ في لبنان. يتطلّب هذا الأمر توضيح القضايا المتنوّعة الّتي تخصّ هذا الاندماج، سواء على الأفراد أم على المشاريع (خصوصًا المشاريع الصّغيرة والمتوسّطة)، وعلى لبنان بوجهٍ عامّ. أنّه من الضّروريّ تحديد العوامل الّتي تؤسّس هذا الاندماج الماليّ، ليتمّ استخدامها، كونها محفّزات تُساعد جميع النّاس على الوصول إلى الخدمات والمنتجات الماليّة الرّسميّة، والاستفادة منها بوجهٍ مناسب، وبشروط أفضل تُعتبر أساسيّة للسّلامة العامّة الاجتماعيّة-الاقتصاديّة، وتطوّر الاندماج الاقتصاديّ. وهنا نطرح بعض القضايا: 

أ. قضايا الاندماج الماليّ على مستوى الأفراد: من المهمّ كشف أهمّيّة الاندماج الماليّ في حياة المواطن اللّبنانيّ. حينها، سيتمكّن الشّعب من التنعّم بسلامة عامّة اجتماعيّة-اقتصاديّة بواسطة إمكانيّات تنفيذ عمليّات ماليّة أرخص وآمن، بحيث يدير النّاس مصاريفهم اليوميّة بوجهٍ أفضل، والأهمّ من ذلك، من أجل أن يدّخروا كي يستطيعوا التّعامل لاحقًا مع أحداث الحياة غير المتوقّعة. 

تكمن تحدّيات أُخرى على هذا المستوى في إمكانيّة اللّبنانيّين في الشّروع أو تمويل نشاط يعود عليهم بالدّخل، ممّا يحسّن من مستوى معيشتهم بوجهٍ عامّ. من شأن ذلك أن يمكّنهم من تمويل دراساتهم، وضمان مستقبل أفضل. كذلك، سيستطيع اللّبنانيّون تغطية نفقاتهم الصّحّيّة، وما يُراكِم الاستفادة من جميع ما سبق هو أنّ الهواتف المحمولة المتواجدة في لبنان الّتي تستطيع تلبية جميع المشاكل المتعلّقة بالحصول على الخدمات والمنتجات الماليّة، تتخطّى الحواجز الجغرافيّة.  

تبقى إحدى المسائل الأساسيّة على المستوى الفرديّ التي تُساهم بوجهٍ فاعل في حياة لبنان الاقتصاديّة بتجنّب تكديس الأموال في البيوت، في ظلّ توافر الحصول على المنتجات والخدمات الماليّة الّتي تتكيّف بوجهٍ كبير مع احتياجات اللّبنانيّين وشرائح مداخيلهم. 

ب. قضايا الاندماج الماليّ على مستوى الأعمال: بما يخصّ الشّركات، يَعرف الاندماج الماليّ ثلاث ركائز: الرّبحيّة، والتّنافسيّة، والنّموّ، خصوصًا في المشاريع الصّغيرة والمتوسّطة. عالميًّا، كشف البنك الدّوليّ في العام ٢٠١٧ في تقريره المختصّ بالمشاريع الصّغيرة والمتوسّطة أنّ الأخيرة تشكّل حوالى ٩٥٪ من نسيج الاقتصاد العالميّ، وهي مسؤولة عن زيادةٍ مقدارها ٤٠٪ في إجمالي النّاتج المحلّيّ، وتوظّف أكثر من ٦٠٪ من السّكّان. لذلك، تُعدّ المشاريع الصّغيرة والمتوسّطة أرضًا خصبة للابتكار، وعاملًا حاسمًا في التّطوّر الاجتماعيّ-الاقتصاديّ. وهكذا، فإنّ هذه المشاريع تؤدّي دورًا محوريًّا في دعم النّموّ، وخلق فرص عمل أكثر داخل لبنان. 

لكن ثمّة دليل على أنّ إمكانات هذه المشاريع غير مستغلّة بالقدر الكافي، بالإضافة إلى أمور أُخرى، نظرًا للتّحدّيات الّتي تواجهها، بما فيها صعوبة الوصول إلى الخدمات والمنتجات الماليّة في جميع المناطق اللّبنانيّة. في الحقيقة، وفي حين أنّ المبادرات المصرفيّة المختصّة بالمشاريع الصّغيرة والمتوسّطة تُعدّ ناجحة إلى حدٍّ ما، يبقى أنّ الواقع يُعيق وصول الكثير من هذه المشاريع إلى الخدمات والمنتجات الماليّة، مثل القروض من المؤسّسات الرّسميّة، والتّأمين وغيرها من الخدمات الأساسيّة. 

يعرض الاندماج الماليّ لهذه الكيانات فرصًا عديدة لجميع المشاريع، وخصوصًا الصّغيرة والمتوسّطة منها، إذ تستطيع ضمان الرّبحيّة عندما تكون قادرة على استخدام طيف واسع من الخدمات والمنتجات الماليّة لتمويل عمليّاتها، أو حتّى الاستحواذ لتطوير نشاطاتها الّتي ستمكّنها بالمقابل من تنمية حصصها السّوقيّة وتأمينها. 

بالإضافة إلى الرّبحيّة، تستطيع الشّركات الاستفادة من الميزة التّنافسيّة الّتي ستولّدها عمليّة اندماجٍ ماليٍّ جيّدة. فعندما تكون هذه الخدمات متوافرة ضمن تكاليف معقولة، ستستطيع الشّركات خفض تكلفة تحويلاتهم الماليّة، الأمر الّذي يضمن تنافسيّة أفضل. كما سيمكّنها ذلك من الاستثمار في الثّروات البشريّة اللّبنانيّة، وكذلك قيامها باستثماراتٍ أُخرى بفضل توافر الخدمات والمنتجات الماليّة ونوعيّتها. بالإضافة إلى هذا العامل الأساسيّ، تستطيع الشّركات القيام بالسّداد وجميع التّحويلات الماليّة الأُخرى بأمان من خلال الوصول إلى المؤسّسات الماليّة الرّسميّة وكذلك الرّديفة، مثل: منصّات الدّعم الجماعيّ، ومنصّات الاقتراض بين الأقران. 

ج. قضايا الاندماج الماليّ على مستوى النُّظم الاقتصاديّة: تضمن النُّظم الاقتصاديّة بالاندماج الماليّ نموًّا في اندماجها الاقتصاديّ. حينها تستطيع النُّظم الاقتصاديّة حشد المزيد من الموارد بسهولة عن طريق استهلاك الأُسر الّتي تُعدّ نفسها مندمجة ماليًّا. كما أنّها تستطيع بالاندماج الماليّ، تحقيق استقرار ماليّ شامل في لبنان. يشتمل هذا على سبيل المثال، على السّيطرة على مخزون الأموال المتداولة، بما أنّ الاندماج الماليّ يمنع عمليّة التّكديس، ويقلّل من العمليّات الاقتصاديّة غير الرّسميّة. يُترجم هذا أيضًا في مساهمة ماليّة أوسع بعمليّة تحصيل الضّرائب من جميع المواطنين والمشاريع العاملة في لبنان. 

في نهاية المطاف، ستتمكّن الحكومة اللّبنانيّة من خلال زيادة تراكم المدّخرات الوطنيّة والسّيطرة على النّظام الماليّ ككلّ، من تحمّل الصّدمات الاقتصاديّة الدّاخليّة والخارجيّة. لذا، وللوصول إلى استقرار ماليّ حقيقيّ، من الضّروريّ أن يُبرز جميع أصحاب المصالح عمليّاتهم الماليّة بشفافيّة لتحقيق النّزاهة الماليّة للنّظام ككلّ. بالإضافة إلى عاملَي الاستقرار والنّزاهة يفتح الاندماج الماليّ الأبواب لخلق فرص العمل في مناطق محرومة في لبنان. في الواقع، تستطيع الدّولة اللّبنانيّة، بحشدها مزيدًا من الموارد، تمويل مشاريع اجتماعيّة، ومشاريع البُنى التحتيّة العامّة، وكذلك مشاريع خلق فرص العمل. ستُساهم جميع هذه المساهمات تباعًا في الحدّ من الفوارق الاجتماعيّة-الاقتصاديّة، كما ستكون مسألة مقدرة لبنان على استقطاب المزيد من الاستثمارات الأجنبيّة، وتأدية دوره على رقعة الاقتصاد العالميّ، بمساهمته بطروحات وإمكانات قويّة. 

تَجدر الإشارة إلى أنّه سيتمّ على المدى البعيد توليد "الحلقة المثمرة" بالاعتماد على الاندماج الماليّ. في الواقع، بفضل هذا الاندماج فإنّه تمّ خفض الإقصاء الاجتماعيّ والفقر، لا بل حتّى القضاء عليهما في بعض الأحيان، مما يعني أنّ معدّل الاستهلاك لدى الأسر اللّبنانيّة سيرتفع، وهذا ما ينعكس على الرّبحيّة والتّنافسيّة بين الشّركات، ومعه يتنشّط الاقتصاد القوميّ ككلّ. وعلاوة على ما ذُكر، سنشهد توزيعًا للمداخيل أكثر إنصافًا وشفافيّةً ممّا كانت عليه من قبل، عندها تستطيع الحكومة اللّبنانيّة مساعدة المواطنين الأشدّ عوزًا، من خلال عمليّات شبكات الأمن الاجتماعيّ التي يمكن تنفيذها بطرائق أوسع استدامةً واندماجيّة لمكافحة جميع أشكال الوصم، وعدم المساواة بحسب الجنس، أو التّوزّع الجغرافيّ. 

يعتمد العديد من الكيانات الاندماج الماليّ كأولويّة أو هدف عندما تعي تحدّياتها. ومن بين هذه الكيانات: مؤسّسات التّمويل المتناهي الصّغر (Microfinance)، والتّعاونيّات، ومزوّدات خدمة الهاتف المحمول، والتّكنولوجيا الماليّة، وغيرها من المؤسّسات الماليّة، والوكالات الحكوميّة، والمبادرات ذات النّطاق الوطنيّ والعالميّ. بالإضافة إلى عوامل الاندماج الماليّ، نشأت بعض المبادئ والمبادرات الجديدة لتساهم في "أنسنة العمل الماليّ وإرساء ديمقراطيّته"[6]. من بين العديد من المبادئ، نذكر: أخلاقيّات التّمويل وتشاركيّته، والأعمال التّجاريّة الاجتماعيّة الّتي تُثبِت على نحوٍ متزايد أنّه بإمكانها أن تُصبح سُبلًا جديدة لإعادة موثوقيّة العمليّات الماليّة، وجعلها أشدّ مسؤوليّةً، وأطول استدامةً، وأكثر منفعةً، وأسهل وصولًا إلى الجميع[7]

إنّ البنك الدّوليّ وجمعيّات أُخرى، مثل مجموعة الأمم المتّحدة للتّنمية المستدامة، والفريق الاستشاريّ لمساعدة الفقراء (CGAP)، والشّراكة العالميّة من أجل الاندماج الماليّ (GPFI)، حدّدت التّكنولوجيا الماليّة عنصرًا أساسيًّا لتحقيق الاندماج الماليّ الّذي يُعدّ وسيلةً للحدّ من الفقر. كما يجدونه وسيلة للمساهمة في النّموّ الاجتماعيّ-الاقتصاديّ في بلادٍ مختلفة، خصوصًا تلك الدّول ذات الدّخل المنخفض والمتوسّط مثل لبنان. 

٣. بانوراما وضع التّكنولوجيا الماليّة في لبنان

إنّ ميدان التّكنولوجيا الماليّة في لبنان متطوّر إلى حدٍّ ما. وبسبب نظامها الاقتصاديّ المتطوّر على صعيد التّكنولوجيا الماليّة، فإنّ ١٤٪ من الشّركات النّاشئة في الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا متمركزة في لبنان. كما تأتي شركات التّكنولوجيا الرّقميّة في المرتبة الرّابعة بترتيب الصّناعات الأكثر شيوعًا. في الحقيقة، يُظهر المجتمع اللّبنانيّ اهتمامًا بالتّكنولوجيا الجديدة المبدعة، ويتكيّف معها. وقد أظهرت إحصائيّات قامت بها المؤسّسة العامّة لتشجيع الاستثمارات في لبنان (IDAL) أنّ ٥٤٪ من المودعين يقبَلون العمليّات المصرفيّة الرّقميّة. 

هذا ويأتي لبنان في المرتبة الثّالثة بين البلدان العربيّة بعد الإمارات العربيّة المتّحدة ومصر في تطبيق الخدمات المصرفيّة الرّقميّة. على سبيل المثال، استثمر مصرف فرنسبنك ما مقداره ٢,٥ مليون دولار أمريكيّ في منصّة الدّفع الرّقميّ (PinPay)، وهي شركة ناشئة محليّة مختصّة بالتّكنولوجيا الماليّة. كذلك، أطلق بنك عودة، خدمة (Tap2Pay)، وهي خدمة سداد غير تلامسيّة (Contactless) لتحسين خدمات الدّفع في البلد إلى أقصى حدّ. 

يتمتّع لبنان بشريحة عاملة عالية الكفاءة ذات قدرات تنافسيّة بمتوسّط أجور مرتفع. وفق (IDAL)، حصل لبنان على المرتبة التّاسعة عشر دوليًّا لتصنيف برنامجه التّربويّ، والسّادسة في تصنيف جودة منهاجه في حقول العلوم والرّياضيّات. إنّ عدد خرّيجي الجامعات في حقول تكنولوجيا المعلوماتيّة والاتّصالات مرتفع جدًّا، حيث يشهد لبنان حوالى ٢٠٠٠ خرّيج سنويًّا في هذا المجال. 

يسهّل عدد مالكي الهواتف المحمولة ومستخدمي الإنترنت المرتفع عمليّة دخول السّوق عند شركات التّكنولوجيا الماليّة. في العام ٢٠١٥، حصل لبنان على المرتبة الثّامنة في مجال تطوّر مهارات تكنولوجيا المعلوماتيّة والاتّصالات بحسب مؤشِّر (IDI) العالميّ[8]. كما أنّ التّوسّع المطِّرد لقطاع تكنولوجيا المعلوماتيّة والاتّصالات يجب أن يندرج ضمن أولويّات الحكومة اللّبنانيّة. ومن أجل تعزيز الصّناعة الرّقميّة تمّ زيادة عرض النّطاق التّردّدي لشبكة الإنترنت (Bandwidth) بمقدار عشرة أضعاف. 

يتمتّع لبنان بمناخ مُرحِّب للشّركات النّاشئة، إذ تزوّد الحكومة اللّبنانيّة المستثمرين الإقليميّين والدّوليّين طيفًا من الفرص الماليّة وغير الماليّة. كما قدّمت مختلف الوزارات والمنظَّمات الإعفاءات والمزايا الضّريبيّة الكثيرة. ثمّة أيضًا مجموعة من شركات رأس المال الاستثماريّ الّتي تزوّد المنظّمات النّاشئة والشّركات الصّغيرة بالتّمويل اللّازم. فعلى سبيل المثال، قدّمت مؤسسة رأس المال المشترك (ميدل ايست فنتشر بارتنرز MEVP) ما مجموعه ١,١ مليون دولار أميركيّ إلى منصّة (PinPay). 

في السّنوات الخمس المنصرمة ارتقى العديد من شركات التّكنولوجيا الرّقميّة في لبنان إلى مستويات عالميّة، نذكر أهمّها: 

أ. شركة (Bluering): وهي شركة برمجيّة تزوّد السّوق الماليّ والمصرفيّ العالميّ بحلول فيما يتعلّق بالتّجزئة وإدارة ائتمان المؤسّسات. في الشّرق الأوسط، أصبحت (Bluering) المزوّد الرّائد لحلول المخاطر الائتمانيّة، وهي تهدف لأن تكون لاعبًا أساسيًّا في الشّرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وآسيا الوسطى، كما خطّطت الشّركة لتقديم قائمة بالعديد من المصارف اللّبنانيّة الواسعة الانتشار إلى زبائنها الاعتياديّين، والآن هي في طور التّوسّع في السّوق العالميّة. 

ب. شركة (CardSwitch): وهي شركة تسعى إلى إزالة البطاقات الائتمانيّة المزوّرة، ومحاربة الصّيرفة النّقديّة، وتحسين مستوى الثّقة والخبرة لدى الزّبائن. تمّ اختيار الشّركة ضمن القائمة الأخيرة المرشّحة للفوز بجائزة أفضل ابتكار تقنيّ في حفل (Seamless) الّذي أُقيم في دبي، وتمّ اختياره بين اثنتي عشرة شركة ناشئة، لتقدّم نماذجها في حفل (Seedstars Beirut) أمام لجنة دوليّة.

ج. شركة (PinPay): وهي المنصّة الرّائدة في لبنان للسّداد عبر الهاتف المحمول وجباية الفواتير. تساعد خدمة السّداد الّتي يقدّمها تطبيق الشّركة زبائنها على الدّفع في أيّ مكان، وأيّ وقت، ولأيّ شخص. في الواقع، يمتلك بنك عوده وبنك البحر المتوسّط الشّركة ويديرانها. 

د. شركة (Bnooki.com): وهي موقع لمقارنة المصارف، كما تسمح لزبائنها بمتابعة العروض الّتي تقدّمها المصارف والهيئات الماليّة: القروض، والبطاقات، والحسابات، والخطط الائتمانيّة، والخدمات. أقنع هذا الموقع حوالى العشرين مصرفًا لبنانيًّا بالكشف عن رسومهم ومكافآتهم المخفيّة، وعرض جميع المعلومات عن خدماتها.

ه. شركة (CMO): وهو تطبيق دفع رقميّ يسمح للزّبائن بالقيام بعمليّات سداد مباشرة عبر الإنترنت، وكذلك تحويل التّمويل من أي صرّاف آلي لا يعمل بالبطاقة، أو إيداع المال من دون بطاقة مصرفيّة. نجد أنّ أهمّ المطاعم والمحال وشركات التنقّل في لبنان يتعاملون بهذه الطريقة. 

و. شركة (ReAble): هي شركة ناشئة تبتكر تطبيقات للهواتف المحمولة وتطوّرها لخدمة ذوي الاحتياجات الخاصّة. وكان أوّل منتجاتها (ReAble Wallet) تطبيق محفظة رقميّة تمكّن الأفراد الّذين يعانون من مشاكل في الذّاكرة من دفع فواتيرهم وتحويل الأموال، ولديها ٣٠٠٠ مشترك ضمن ستّة مراكز عناية في لبنان وكندا. 

٤. خاتمة

إنّ الاندماج الماليّ شغفٌ حقيقيّ لدى الحكومات، ويدعمه العديد من الهيئات الماليّة والتّنمويّة العالميّة حول العالم. إذ يُغطّي جميع أبعاد حياة الدّول الاقتصاديّة المختلفة. ونظرًا إلى الحالة الاقتصاديّة-الاجتماعيّة السّائدة في لبنان يعرف هذا المفهوم معنًى أعمق ونطاقًا أدقّ لأنّه ينطوي على آمال ووعود؛ الوعد بانخفاض معدّلات الفقر لدى الأفراد، والمساهمة المشتركة في تحقيق الأرباح، والتّنافسيّة، والنّموّ لجميع المشاريع بوجهٍ عامّ، والصّغيرة والمتوسّطة منها بوجهٍ خاصّ. 

أمّا على مستوى الاقتصاد اللّبنانيّ المصنّف ضمن بلدان الدّخل المنخفض والمتوسّط، كذلك البلدان النّامية أو النّاشئة، يُعدّ الاندماج الماليّ عاملًا أساسيًّا في تطوير الاندماج الاقتصاديّ والاستقرار الماليّ والنّزاهة في التّعامل، ويضمن تخفيض معدّلات عدم المساواة بحسب الجنس، أو البعد الاجتماعيّ-الجغرافيّ. يعالج الاندماج الماليّ، معتمِدًا على التّقنيّات والابتكار، مسائل عديدة تمسّ الأفراد والشّركات والنُّظم الاقتصاديّة بوجهٍ عامّ. فيما يخصّ الأشخاص، تقدّم التّكنولوجيا الماليّة وصولًا حقيقيًّا إلى المنتجات والخدمات الماليّة الرّسميّة، الّتي تُعدّ خطوةً أولى ونقطة انطلاق للاندماج الماليّ. أمّا فيما يخصّ الشّركات، يتعامل الاندماج الماليّ مع ثلاث قضايا: الرّبحيّة، والتّنافسيّة، والنّموّ. لذا، يستطيع النّظام الاقتصاديّ اللّبنانيّ الاستفادة من "الحلقة المثمرة" الّتي يقدّمها الاندماج الماليّ. 

بزغ العديد من مبادرات التّكنولوجيا الماليّة، ومعها ظهرت مخاطر جديدة، من شأنها أن تفتح بابًا افتراضيًّا نحو الأنشطة والأعمال التّجاريّة التّخريبيّة المؤذية. لذلك، يرافق تقدّم تطوّر تقنيّات التّكنولوجيا الماليّة توسّع في مصادر القرصنة الرّقميّة ومقدّراتها، إذ إنّ التّكنولوجيا تمكّن بوجهٍ عامّ من تخطّي الحدود الجغرافيّة الحقيقيّة، لذا، أصبحت الحدود بين البلدان أقلّ جدوى. هذا ما يدعو الهيئات التّنظيميّة إلى فحص هذه الجوانب عن كثب. كما أنّ سيادة الدّول أصبحت على المحكّ، خصوصًا فيما يتعلّق بالاستقرار الماليّ ونزاهة العمليّات الماليّة. وعليه، فإنّ الدّولة اللّبنانيّة مدعوّة إلى وضع سلطات قضائيّة وهيئات حماية بيانات العملاء، وأنظمة ضرائبيّة مناسبة لهذه الحالة الجديدة. كما يجب تعزيز التّنسيق والاستشارة بين السّلطات الرّقابيّة والمؤسّسات الماليّة والتّكنولوجيا الماليّة. 

بالإضافة إلى التّحدّيات الأمنيّة، ثمّة تحدّيات ثقافيّة كشفتها مخاوف الأفراد، وكذلك بعض المؤسّسات الماليّة التّقليديّة بما يخصّ التّكنولوجيا الماليّة في لبنان. إذ تنخرط بعض المؤسّسات الماليّة في حركة مقاومة التّكنولوجيا الماليّة لأنّها تقضم من حصّتها السّوقيّة. لكن، من دون الحلول الابتكاريّة، يُخاطر لبنان بأن يعيش نوعًا من "القناعة التّكنولوجيّة" الّتي ستؤدّي بدورها إلى الاهتراء وخسارة التّنافسيّة في مقارنته بباقي بلدان المنطقة. لذا، من الضّروريّ أن تحشد الحكومة اللّبنانيّة نظامها الاقتصاديّ كي تلحق أو تُبقي على ميزاتها التّنافسيّة، وهذا الأمر يحتاج إلى تطوير مناخ الأعمال بوجهٍ عامّ. 

بالطّبع، إنّ جميع هذه التّحدّيات تقيّد تبنّي بعض فئات المجتمع اللّبنانيّ التّكنولوجيا الماليّة، فهُم يعانون أحيانًا من نقص في الموارد الماليّة (صعوبة الحصول على التّمويل عند انطلاقة مشاريعهم وكذلك في أثناء نموّها)، والموارد المادّيّة (خصوصًا الافتقار إلى بعض البنى التّحتيّة الأساسيّة لانتشار التّكنولوجيا الماليّة الكامل)، وكذلك الموارد البشريّة (الافتقار إلى الأنظمة التّربويّة الّتي تعزز الابتكار والإبداعيّة، وتشجّع ريادة الأعمال وتدمج التّكنولوجيا الرّقميّة في مكوّناتها المتنوّعة). 

عمومًا، إنّ إحدى الأمور الطّارئة في النُّظم الاقتصاديّة الماليّة تتعلّق خاصّة بالجانب التّنظيميّ. لذلك، من الضّروريّ الإسراع في نشر الأُطر التّنظيميّة الّتي تُفضي إلى تطوير التّكنولوجيا الماليّة، وتتماشى مع المعايير الدّوليّة، خصوصًا في ما يتعلّق بمحاربة تبييض الأموال، وتمويل المنظّمات الإرهابيّة. 

فما هي استراتيجيّات التّكنولوجيا الماليّة الّتي تتّسم بالمرونة والقدرة التّنافسيّة الّتي سيطبّقها لبنان على المستويات المحلّيّة والإقليميّة والدّوليّة ليستعيد عافيته الاقتصاديّة، ويعيد ثقة المستثمر اللّبنانيّ والعربيّ والعالميّ فيه؟ والأهم، كيف يحدّ من خطر الفقر الّذي يداهم مواطنيه؟ بالطّبع الإجابة عن هذه الأسئلة في عهدة الحكومة اللّبنانيّة...



[1] Schueffel, (2016), Taming the Beast: A Scientific Definition of Fintech.

[2] The Pulse of Fintech, 2015 in Review by KPMG and CB Insights.

[3] Douglas W. Arner, Jànos Barberis & Ross P. Buckley, Fintech, RegTech, and the Reconceptualization of Financial Regulation, 37 Nw. J. Int'l L. & Bus. 371 (2017).

[4] Traditional banks and fintech: survival, future and threats – Mallah Boustani Nada – 2020 – springer international publishing.

[5] ندى الملّاح البستانيّ – المشرق الرقميّة، العدد ١٦، حزيران ٢٠٢٠. التكنولوجيا الماليّة: هل تنقذ لبنان من أزمته الاقتصاديّة؟

[6] Schiller Robert J., Finance and the Good Society-STU - Princeton University Press-2012.

[7] Demirgüç-Kunt, Klapper et Singer, (2017) Financial Inclusion and Inclusive Growth: A Review of Recent Empirical Evidence, Policy Research working paper, World Bank Group.

[8] ICT sector in Lebanon 2018 factbook- evaluating ICT abilities and skills in the ICT Development Skills Index (IDAL).