الذكاء الاصطناعيّ وأثره المحوِّل في الخدمات الماليّة والتأمينيّة

نُشرت هذه المقابلة في مجلّة البيان الاقتصاديّة، العدد ٦٢٢، أيلول ٢٠٢٣. لقراءة المقابلة في المجلّة، اضغط هنا.

يبرز الذكاء الاصطناعيّ كقوّة محوِّلة تُعيد تشكيل الصناعات والمجتمعات، في القرن الحادي والعشرين، وذلك بفضل قدرته الرائعة على تحليل كمّيّات هائلة من البيانات، والتنبّؤ، وأتمتة المهام المعقّدة. كما أصبحت تطبيقاته منتشرة في كلّ مكان: من الرعاية الصحّيّة، والنقل، والترفيه، والتمويل. وفي حين لا يمكننا إنكار قدرة الذكاء الاصطناعيّ على دفع عمليّة التطوّر، إلّا أنّه مصحوب أيضًا بتحدّيات كبيرة تفرض علينا إعادة تقييم استخداماتنا وتقويمها. 

في هذا السياق، قابلنا البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ، صاحبة الخبرة العمليّة والأكاديميّة لنتعمّق في فهم تأثير الذكاء الاصطناعيّ على الصناعة الماليّة، واستكشاف تطبيقاته التحويليّة، والاعتبارات الأخلاقيّة التي يثيرها، والمهارات المطلوبة من قبل المتخصصين للتأقلم السليم في هذا الميدان المبتَكر.

- بدايةً، هل يمكنكِ تقديم لمحة عامة عن كيفيّة قيام الذكاء الاصطناعيّ بتحويل الصناعة الماليّة وتطبيقاتها الرئيسيّة؟

- يعمل الذكاء الاصطناعيّ على إعادة تشكيل الخدمات الماليّة في مختلف المجالات. فيتمّ استخدامه لتقييم المخاطر، واكتشاف الاحتيال، وأتمتة خدمة العملاء، وتحسين استراتيجيّة الاستثمار. على سبيل المثال: تُحلِّل خوارزميّات التعلّم الآليّ البيانات السابقة لتحديد الأنماط في تقييم المخاطر، ممّا يؤدّي إلى تنبّؤات أدقّ، وقرارات للاستدانة أعمق سَبرًا. كما تراقب الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعيّ التعاملات، وتكشف الاحتيال في الوقت الفعليّ، وتحدد الأنماط غير الاعتياديّة، وتقلِّل الأنشطة الخبيثة.

- كيف يُعزِّز الذكاء الاصطناعيّ العمليّات الماليّة التقليديّة مثل التصنيف الائتمانّي واستراتيجيّات الاستثمار؟ هل يمكنك تقديم أمثلة عن الابتكارات القائمة عليه؟

- أحدث الذكاء الاصطناعيّ ثورة في نظام التصنيف الائتمانيّ، إذ بات يبحث في نطاق أوسع من مصادر البيانات خارج التاريخ الائتمانيّ. وهذا يشمل نشاط وسائل التواصل الاجتماعيّ وغيرها، ممّا يتيح إجراء تقييم أعمّ شمولًا للجدارة الائتمانيّة. على سبيل المثال، يمكن أن تفيد البياناتُ البديلة الأفراد ذوي السجل الائتمانيّ المحدود، ممّا يتيح لهم الوصول إلى الخدمات الماليّة التي لم يتمكّنوا الوصول إليها مسبقًا. علاوة على ذلك، تُعزِّز الخوارزميّات التي تعمل بالذكاء الاصطناعيّ استراتيجيّات الاستثمار. إذ يستخدم المحلّلون التعلّم الآليّ لتحليل البيانات السابقة، وتحديد الارتباطات، والتنبّؤ باتّجاهات السوق. 

- مع ظهور روبوتات الدردشة الذكيّة، كيف تشاهدين مستقبل المشورة الماليّة والتداول؟

- أصبح مستقبل الاستشارات الماليّة شخصيّة بشكل متزايد، فتستخدم المنصّات خوارزميّات الذكاء الاصطناعيّ للتوصية باستراتيجيّات الاستثمار بناءً على تحمّل المخاطر الفرديّة والأهداف الماليّة. كما يؤدّي هذا إلى إضفاء الطابع الديمقراطيّ على الوصول إلى خدمات إدارة الثروات وتمكين المستثمرين من اتّخاذ قرارات مستنيرة. من المرجّح أن يستمرّ التبادل الخوارزميّ، في إعادة تشكيل ديناميكّيات التداول. ومع ذلك، يجب إدارة بعض التحدّيات مثل تقلّبات السوق ومواطن الخلل الفنيّة لتحقيق النجاح المستدام.

- سبق أن أشرتي في مقالكِ العلميّ " Artificial intelligence impact on banks clients and employees in an Asian developing country" إلى الاعتبارات الأخلاقيّة المحيطة باستخدام الذكاء الاصطناعيّ في عمليّة صنع القرار الماليّ. برأيك، كيف يمكن معالجة هذه التحيّزات؟

- يقدم دمج الذكاء الاصطناعيّ في صنع القرار المالّي مخاوف أخلاقيّة تتعلّق بالشفافيّة والمساءلة والتحيّزات المحتملة. تتعلّم أنظمة الذكاء الاصطناعيّ من البيانات السابقة، التي قد تحتوي على تحيّزات موجودة في المجتمع. على سبيل المثال، قد تؤدّي قرارات الإقراض المدفوعة بالذكاء الاصطناعيّ إلى التمييز عن غير قصد ضدّ بعض الديموغرافيّات بحسب الجنس، أو العرق، إلخ. فيتطلّب الأمر معالجة هذه التحيّزات، بالإضافة إلى تنفيذ خوارزميّات أشدّ عدالة. إذ يمكن أن تساعد تفسيرات النماذج الشفافة أيضًا في بناء الثقة، وضمان اتّخاذ القرارات الأخلاقيّة في العمل.

- كيف يساهم الذكاء الاصطناعيّ في تدابير الأمن السيبرانيّ في القطاع الماليّ، وما الدور الذي يؤدّيه في حماية البيانات الماليّة الحساسة؟

- تراقب نماذج التعلّم الآليّ باستمرار أنشطة الشبكات بحثًا عن الانحرافات والأنماط المرتبطة بالتهديدات الإلكترونيّة، كما تتيح هذه المراقبة في الوقت الفعليّ التعرّف السريع على الخروقات الأمنيّة المحتملة، ومحاولات الوصول غير المصرّح بها. يمكن لهذه التقنيّات تحليل كمّيّات هائلة من البيانات لاكتشاف الحالات الدقيقة التي قد تشير إلى أنشطة خبيثة، ممّا يساهم في حماية البيانات الماليّة الحساسة والحفاظ على ثقة العملاء.

- مع استمرار تطور الذكاء الاصطناعيّ، ما المهارات التي يحتاج المحترفون في الصناعة الماليّة إلى تطويرها ليقدروا على المنافسة، وكيف يمكنهم الاستعداد للمشهد المتغيّر؟

- يحتاج الخبراء في الصناعة الماليّة إلى تكييف مهاراتهم ليظلوا قادرين على المنافسة في مشهد يحرّكه الذكاء الاصطناعيّ، فأصبحت هذه المهارات ضروريّة بوجهٍ متزايد. كما عليهم فهم كيفيّة تفسير الأفكار المستندة إلى الذكاء الاصطناعيّ والاستفادة منها، وكذلك التنقل في الاعتبارات الأخلاقية المرتبطة بتقنياته. كما، يُعدّ التعلّم المستمرّ، ورفع المهارات من خلال الدورات التدريبيّة، وورش العمل، أمرًا ضروريًّا للتحضير للمتطلبات المتغيّرة للصناعات الماليّة.

- هل من كلمة ختاميّة للمستثمرين العرب؟

- في استكشافنا للتأثير العميق للذكاء الاصطناعيّ في الصناعة الماليّة، من المهم أن ندرك أن إمكاناته التحويليّة تمتد إلى ما هو أبعد من التمويل. فبينما ننتقل عالميًّا وعربيًّا إلى عصر الـ (AI)، من الضروريّ معالجة الاعتبارات الأخلاقية المرتبطة بنشره، بما في ذلك الخصوصيّة والتحيّز والشفافيّة، ومعاييرنا الاجتماعيّة. إذ تعدّ المناقشات المفتوحة والتعاون عبر التخصصات أمرًا حيويًّا لتسخير إمكانات الذكاء الاصطناعيّ مع ضمان استخدامه المسؤول والعادل، وهذه مهمّة مُلقاة علينا في المجالات الأكاديميّة والبحثيّة والعمليّة.

ختامًا، تبقى مغامرة الذكاء الاصطناعيّ رحلة مفتوحة، حيث يواصل الباحثون والمبدعون والمفكّرون دفع حدود ما هو ممكن، وعلينا نحن في الأوطان العربيّة أن نكون سبّاقين في هذه المجالات المبتَكرة. إذ يَعِد تقارب الذكاء الاصطناعيّ مع التقنيّات الناشئة الأُخرى، مثل الحوسبة الكموميّة والتكنولوجيا الحيويّة، بمزيد من الابتكارات الرائعة التي يمكن أن تعيد تشكيل عالمنا بطرق لا يمكننا أن نتخيّلها، وتطوير مجتمعاتنا العربيّة الناشئة.