بيئة، مجتمع، وحوكمة... استثمارات واستدامة خضراء

نُشر هذا المقال في مجلّة المشرق الرقميّة، في ١٧-٦-٢٠٢٣. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

مقدّمة:

لا يزال موضوع الممارسات البيئيّة والاجتماعيّة وحوكمة الشّركات الـ (ESG) في حالة تغيّر مستمرّ، إذ تتفاعل مجموعة واسعة من وجهات النّظر بما يخصّ تحديدها، والأهمّ من ذلك، ما يتعلّق بالمعلومات الّتي تتوزّع بموجبها نسب الاستثمارات لدى الشّركات بوجهٍ أفضل في هذا المجال. وتتضمّن هذه المعلومات كلًّا من التّقارير، والكشوف الماليّة، والتّصنيفات، وتقييمات المؤشّرات البيئيّة والاجتماعيّة والحوكمة، بالإضافة إلى البيانات، والمقدِرة على تكوين النّماذج العمليّة.

وبالتّعريف، فإنّ الـ (ESG) هي العوامل غير الماليّة الّتي يستخدمها المستثمرون لقياس مؤشّرات الاستدامة، على ثلاثة محاور: البيئة (E)، والمجتمع (S)، والحوكمة (G). فتهتمّ بالحفاظ على الموارد الطّبيعيّة، وتبحث في العوامل الاجتماعيّة داخل المؤسّسة وخارجها، وتراقب كيفيّة إدارتها نفسَها. فالعديد من المستثمرين يعتبرونها شرطًا مسبقًا وأساسيًّا قبل الاستثمار الماليّ، خصوصًا مع متطلّبات خطط الأمم المتّحدة للعام ٢٠٣٠.

اليوم، تركّز الحكومات والشّركات بشدّة على الاستدامة البيئيّة، فهي تواجه صعوبات اجتماعيّة واقتصاديّة وبيئيّة تتزايد مع مطلع القرن الحادي والعشرين. فتنتج المصاعب البيئيّة من الأنشطة التّجاريّة الواسعة النّطاق، والإنتاجات الضّخمة، واستخدام الموارد غير المستدام، بالإضافة إلى عامل تزايد عدد السّكّان، ما يحثّ البلدان على عقد اتّفاقيّات دوليّة لتوقيف تدهور السّلامة البيئيّة[1]. ففرض بروتوكول كيوتو الصّادر في العام ٢٠٠٥[2]، واتّفاقيّة باريس في العام ٢٠١٥[3]، قيودًا على عدد من الشّركات في محاولتها الحدّ من مخاطرها البيئيّة، وظهَر مفهوم "الاقتصاد الأخضر".

١. النّظام البيئيّ لمعلومات الاستدامة[4] 

يشكّل العديد من الجهات الفاعلة ما يُسمّى "النّظام البيئيّ لمعلومات الاستدامة"، الّذي يتألّف من المستثمرين، ورؤساء مجالس الإدارة، والمسؤولين، والموظّفين، وأعضاء المجتمع المدنيّ، وكذلك المدقّقين، وواضعي السّياسات العامّة. حاليًّا، ثمّة اتّفاق غير متين داخل هذه المجموعة بشأن ما تتضمّنه الممارسات البيئيّة والاجتماعيّة والحوكمة، وكيفيّة تطبيق المقاييس المتّفق عليها، والطّريقة الأنسب لاستخدام البيانات المتاحة. إلّا أنّه يوجد تحرّك واسع لتحديد معايير عالميّة بشأن الإبلاغ عن مؤشّرات الاستدامة وفي تأسيس علاقات أمتن بين البيانات الماليّة من جهة، والحوكمة البيئيّة والاجتماعيّة والمؤسّساتيّة من جهة أُخرى.

يهدف نظام معلومات الاستدامة إلى خدمة مجموعتين رئيسيّتين من المستثمرين، تضمّ المجموعة الأولى أولئك الّذين يركّزون على المخاطر الماليّة، أي الّذين يسعون للحصول على معلومات جوهريّة تتعلّق بالتّأثير الماليّ على شركةٍ ما جرّاء العوامل المرتبطة بالاستدامة. والمجموعة الثّانية تضمّ أولئك الّذين يركّزون على التّأثير الاجتماعيّ، أي الّذين يسعون للحصول على معلومات عن تأثير الشّركة في محيطها الخارجيّ (يشمل ذلك الأشخاص، والجماعات، والبيئة، والمجتمع).

٢. خمسة مجالات لتركيز الجهود نحو موثوقيّة معلومات الاستدامة[5]

إنّ النّظم القانونيّة المختلفة، وكذلك السّياقات الاجتماعيّة والسّياسيّة المتنوّعة، تؤثّر في المبادئ الّتي تحدّد المعايير واللّوائح الّتي تحكم معلومات الاستدامة. فلا يوجد معيار عالميّ موحَّد لتقييم التّصريح عن الحوكمة البيئيّة والاجتماعيّة والمؤسّساتيّة. إذ تستعمل هيئات التّصنيف منهجيّات مختلفة، وأطر عمل ومقاييس متنوّعة لإعداد التّقارير اعتمادًا على عناصر عدّة، منها: مكان وجود الشّركة، والصّناعة الّتي تعمل بها، ومضمون تقارير بيانات الـ (ESG). لذلك، وجب على المساهمين في النّظام البيئيّ لمعلومات الاستدامة، بناء الثّقة وتحسين التّعاون لتتناسب بشكل أفضل مع احتياجات المستثمرين الّذين يبحثون عن بيانات مفيدة وموثوقة، وذلك عن طريق:

أوّلًا، رفع مستوى شفافيّة المؤشّرات: عادةً ما تنضمّ الشّركات إلى باقة واسعة من قضايا البيئة والمجتمع والحوكمة بالاستعانة بمجموعة من المؤشّرات المركّبة، عن طريق إعطاء أوزان مختلفة لكلّ قضيّة لحساب التّصنيف العامّ لترتيب الـ(ESG). إذ تشمل هذه القضايا كلّ ما يتعلّق بالتّغيير المناخيّ، والتّلوّث، والنّفايات، والمسؤوليّة عن المنتجات بالإضافة إلى الشّفافيّة الضّريبيّة. يتمثّل أحد التّحدّيات الرّاهنة في أنّ انحياز الهيئات، الّتي تميل إلى الاهتمام بالمخاطر الماليّة، يمكن أن يؤدّي إلى الافتقار إلى الشّفافيّة، وبالتّالي إلى التّقليل من وضوح تقارير الاستدامة وفائدتها.

ثانيًا، زيادة فهم الاستخدامات المختلفة لمعلومات الاستدامة: يمكن أن تخدم معلومات الاستدامة غرضَين: الأوّل، تقييم المخاطر الماليّة، والثّاني تقييم الأثر الاجتماعيّ. لا تتنافى هذه الاستخدامات فيما بينها، ولكن، يمكن الخلط بينها بسهولة. حتّى الآن، تطوَّرت هذه المعلومات لتلبية توقّعات أصحاب المصلحة المهتمّين في المقام الأوّل بتقييم المخاطر الماليّة. على الرّغم من ذلك، يُشجَّع اليوم الاستثمار في البيئة، والمجتمع والحوكمة، ويُعطى الأولويّة للاعتبارات الاجتماعيّة والأخلاقيّة.

ثالثًا، وضع الشّروط الّتي تمكّن من فحص المؤشّرات: يمكن أن تساعد ضمانات مستقلّة على بناء الثّقة بمعلومات الاستدامة، وبالعديد من الجهات الفاعلة الّتي تشكّل النّظام البيئيّ لمعلومات الاستدامة. إذ تزيد قوى السّوق الماليّة من الطّلب على هيئات خارجيّة قويّة ومستقلّة لضمان معلومات الاستدامة. وبالفعل، تدرس الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد الأوروبيّ متطلّبات ضمان إلزاميّة قواعد التّصريح عن الاستدامة.

رابعًا، تطوير تصنيفات قابلة للمقارنة والتّبادل والتّكامل: تحتاج السّلطات القضائيّة، لتحقيق شفافيّة حقيقيّة وقابليّة للمقارنة، إلى تصنيفات قائمة على مبادئ مكمّلة، تحدّد الأنشطة الاقتصاديّة الّتي ينبغي اعتبارها "مستدامة".  فتساعد في إزالة الالتباس بشأن ما يعتبر مستدامًا، وما هو غير مستدام، عن طريق تقديم سبب واضح ومدعوم ببيانات عن مدعاة شمل نشاط معيّنٍ، أو رفضه، ضمن تحديد الاستدامة الخاصّ بهذا التّصنيف.

خامسًا، معالجة الحواجز الّتي يواجهها المشاركون في سوق البلدان النّاشئة: ستشكّل الاقتصادات النّاشئة الغالبيّةَ العظمى من انبعاثات غازات الاحتباس الحراريّ في العالم بحلول العام ٢٠٥٠. لكنّها تتمتّع بقدر أقلّ من المرونة لتكون قادرة على التّكيّف مع آثار تغيّر المناخ مقارنةً ببعض الأسواق الأُخرى. ومن المحتمل أن تكون هذه الدّول النّاشئة أكثر عرضة للأحداث الشّديدة المرتبطة بالمناخ. كما تُشير الحاجة إلى بيانات الاستدامة الشّاملة في الاقتصادات الفتيّة إلى تقليل العوائق أمام المشاركين في السّوق الماليّة في هذه الاقتصادات للتّصريح عن معلومات الاستدامة.

٣. تحدّيات نظام المعلومات المستدام و"الغسل الأخضر"[6]

هكذا رأينا أنّ عدم وجود توافق في الآراء بشأن التّعاريف ومنهجيّات التّصريح والقياس يؤدّي إلى إعاقة التّحليل الدّقيق للأداء المستدام للمؤسّسات. وفي الوقت نفسه، فإنّ القضايا الاجتماعيّة، مثل حقوق الإنسان، ومعايير العمل، والمساواة بين الأعراق، والجنسين، يصعُب قياسها مقابل معيار متّفق عليه مسبقًا، بسبب الاختلافات الاجتماعيّة والسّياسيّة بين البلدان.

علاوةً على ذلك، صاغ العالِم البيئيّ جاي ويسترفيلد مصطلح "الغسل الأخضر" في العام ١٩٨٦، وهو يختلف عن مصطلح "التّبييض" الّذي تقوم به منظّمةٌ ما للتّستّر على المعلومات الفاضحة أو تمويهها بتقديم تمثيل متحيّز للحقائق. ويحدث الغسل الأخضر عندما تنفق منظّمةٌ ما المزيد من الوقت والمال على تسويق نفسها على أنّها صديقة للبيئة بدلًا من تقليل تأثيرها البيئيّ السّلبيّ. كما يُعتبر وسيلة تسويقيّة خادعة تهدف إلى تضليل المستهلكين الّذين يفضّلون شراء السّلع والخدمات من العلامات التّجاريّة المراعية للبيئة. وبعبارة أُخرى، فإنّ الغسل الأخضر يفيد الشّركة فحسب عندما تنجح في خداع عملائها. لذلك، يمكن الشّفافيّة أن تسدّ الفجوة بين الاهتمام المصطنع والأصيل بالبيئة.

كما أدّت مشكلات جودة بيانات الـ (ESG) إلى ظهور الغسيل الأخضر "العرَضيّ". أي، عندما تبلِّغ الشّركات، عن غير قصد، بمعلومات مضلّلة عن أداء الاستدامة بسبب بيانات غير صحيحة أو مجتزأة، عن قصد أو بغير قصد، فإنّ التّصريح عن بيانات الـ (ESG) غير الدّقيقة يشكّل خطرًا حقيقيًّا على سمعة الشّركة والنّتائج النّهائيّة.

خاتمة

بوجهٍ عامّ يُحرِز بعض المناطق والبلدان بالفعل تقدّمًا كبيرًا في تطوير التّصنيفات. فعلى سبيل المثال، يهدف تصنيفُ الاتّحاد الأوروبيّ إلى مساعدة دُوله على توسيع نطاق الاستثمار المستدام وتنفيذ الصّفقة الأوروبيّة الخضراء[7]. كما يعمل مع الصّين على وضع الأرضيّة المشتركة في محاولة لإيجاد قواسم مشتركة داخل التّصنيفات المختلفة. كذلك، زاد عدد قضايا الحوكمة البيئيّة والاجتماعيّة والمؤسّساتيّة الصّادرة عن الهيئات الحكوميّة في السّنوات الأخيرة. وفي الولايات المتّحدة الأميركيّة، اقترحت لجنة الأوراق الماليّة والبورصة قواعد جديدة للإفصاح عن البيانات البيئيّة الّتي يمكن أن تبدأ في تطبيقها في العام ٢٠٢٤. ستُحمِّل هذه اللّوائح الشّركات مسؤوليّة أكبر عن دقّة بيانات الـ (ESG) الخاصّة بها. يمكن أن تنشأ المسؤوليّات القانونيّة من الإبلاغ عن معلومات غير دقيقة، أو من عدم وجود ضوابط وحوكمة داخليّة كافية لضمان جودة البيانات.

ختامًا، نرى أنّ العمل على وضع المعايير الدّوليّة الّذي يقوم به مجلس معايير الاستدامة الدّوليّة قد يفيد أيضًا البلدان النّاشئة مثل بلداننا العربيّة[8]، إذا انتهزت الفرصة لاعتماد معاييرها في أطرها القانونيّة الخاصّة. على الرّغم من عدم وجود بيانات دقيقة بوجهٍ تامّ، إلّا أنّ التّحديات كمعايير التّقارير المتباينة، وأساليب إدارة البيانات غير المتّصلة، تكشف عن صعوبة الحصول على بيانات الاستدامة الموثوقة. وهذا ما تعمل على توفيره الهيئات الضّامنة المستقلّة بما تقدّمه من ركائز نظام المعلومات للبيئة المستدامة، لأنّ الإبلاغ عن البيانات الخاطئة والخادعة يعود بعواقب ماليّة وخيمة على سمعة المؤسّسات، كما أوضحنا بشكلٍ مقتضب في هذه المقالة.

_________
[1]   Fernando, Yudi, Charbel Jose Chiappetta Jabbour, and Wen-Xin Wah. "Pursuing green growth in technology firms through the connections between environmental innovation and sustainable business performance: does service capability matter?." Resources, Conservation and Recycling 141 (2019): 8-20.

[2]   https://unfccc.int/resource/docs/convkp/kparabic.pdf

[3]   https://unfccc.int/sites/default/files/arabic_paris_agreement.pdf

[4]   Chen, Adela JW, Marie‐Claude Boudreau, and Richard T. Watson. "Information systems and ecological sustainability." Journal of systems and Information technology 10, no. 3 (2008): 186-201.

[5]   Palmer, Margaret A., Emily S. Bernhardt, Elizabeth A. Chornesky, Scott L. Collins, Andrew P. Dobson, Clifford S. Duke, Barry D. Gold et al. "Ecological science and sustainability for the 21st century." Frontiers in Ecology and the Environment 3, no. 1 (2005): 4-11.

[6]   de Freitas Netto, Sebastião Vieira, Marcos Felipe Falcão Sobral, Ana Regina Bezerra Ribeiro, and Gleibson Robert da Luz Soares. "Concepts and forms of greenwashing: A systematic review." Environmental Sciences Europe 32, no. 1 (2020): 1-12.

[7]   بحسب خطّة المفوّضيّة الأوروبيّة لجعل أوروبّا محايدة مناخيًّا بحلول العام ٢٠٥٠.

[8]   Boustani, Nada Mallah, and Sana Abidib. "ESG Investing in “White Gold”: The Case of Lebanese Salinas." Journal of Risk and Financial Management 16, no. 3 (2023): 147.