مع بزوغ فجر الثورة الرقمية العالمية، يبرز الذكاء الاصطناعي كقوة تحويلية. فهو يُعيد تعريف الاقتصادات ونماذج العمل والأنظمة التعليمية والعلاقات الاجتماعية في كلّ مكان. وعلاوةً على الأزمات المتعدّدة الأبعاد التي يعاني منها لبنان، وتؤثّر على بنيته التحتية ومؤسساته وشبابه، يزداد قلق اللبنانيّين من مستقبلهم الواعد، ويسألون أنفسهم «بالنسبة لبكرا شو؟». فما الذي يمكن أن يجلبه الذكاء الاصطناعي على حياتهم؟ وكيف يمكن أن يغيّرها؟ وكيف يستغلّ لبنان هذه الفرص من أجل ازدهاره، كونه مركزاً تقنيّاً ومصدر ابتكار في الشرق الأوسط؟
في الحقيقة، لا يبدو السياق مؤاتياً جدّاً. فانقطاع التيار الكهربائي، وانهيار النظام المصرفي، وعدم الاستقرار الأمني والسياسي، جميعها عوائق واضحة أمام ظهور نظام ذكاء اصطناعي مزدهر. ومع ذلك، ثمّة العديد من الإشارات ولو الضعيفة التي تدلّ إلى مرونة تكنولوجية تتحدّى أكثر التكهّنات تشاؤماً.
إنّ السرعة التي يتمّ بها تبنّي الذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم مهولة. وقد أدّى هذا النمو الهائل إلى تركيز جيوسياسي غير مسبوق. وقد استثمرت القوى الكبرى بكثافة في البنى التحتية للذكاء الاصطناعي. من ناحية أخرى، يظلّ لبنان إلى حدّ كبير خارج هذا السباق على قوّة الحَوسبة. لكنّ ثروة لبنان الحقيقيّة لا تكمن في الآلات التي يمتلكها، بل في موارده البشرية. فطوّرت إحدى طالبات المدرسة الثانوية نموذجاً أوّلياً لتطبيق يترجم لغة الإشارة إلى اللغة العربية المنطوقة، ومن دون أي تدريب مسبق على البرمجة، مستعينةً بروبوتات الدردشة المجانية.
فعلى مدى عقود، كان لبنان يصدّر مواهبه إلى الجامعات والشركات الرائدة في العالم. واليوم، تشكّل هذه المواهب مغترباً أكاديمياً وتكنولوجياً قيّماً مندمجاً بالفعل في شبكات البحث والتطوير الدولية.
في هذا السياق، تحتل مؤسسات التعليم العالي موقعاً مركزياً. فهي التي يمكن أن تحمل الزخم اللازم لتحويل الذكاء الاصطناعي من سراب بعيد إلى رافعة للتحوّل الاقتصادي والاجتماعي. لكن ينطوي هذا على تحوّل جذري في الأولويات والممارسات الأكاديمية. وفي الوقت الذي انخفضت فيه تكلفة نماذج التدريب في العامين المنصرمين، من الضروري أن تَدمج المناهج الدراسية بشكل ديناميكي وحدات حول الذكاء الاصطناعي التوليدي، أخلاقيات الخوارزميات، والتعلّم الآلي، والاستخدام النقدي للبيانات.
لا يمكن أن يقود عددٌ قليل من المدرّسين هذا التغيير، بل يجب أن يكون المنهج مؤسسياً، مدعوماً برؤية استراتيجية إدارية. كما يجب الثناء على المدرّسين الذين يُعيدون كتابة مناهجهم الدراسية، ويقدّمون مشاريع عملية، ويشرفون على التدريب في مجال الذكاء الاصطناعي. علماً أنّ الأخير ليس تخصّصاً في حدّ ذاته، بل لغة جديدة يحتاج المهندسون والاقتصاديّون والمحامون والأطباء والمعماريّون إلى اتقانها. لذلك، من الضروري كسر الحواجز المعرفية، وتشجيع المناهج المشتركة بين التخصّصات والمنهجيات العابرة للتخصّصات.
يتطلّب هذا التحوّل أيضاً تعاوناً وثيقاً مع المغتربين. فالعديد من اللبنانيّين الذين يشغلون مناصب رئيسة في المختبرات الدولية مستعدّون للمساهمة من بعيد، بتقديم الحلقات الدراسية، والإشراف على المشاريع النهائية. كما يمكن أن تصبح هذه الشبكة، أساساً لاستراتيجية طموحة للتطوير الأكاديمي. ما نحتاجه هو الإرادة السياسية والمؤسسية لتفعيلها، وهيكلة هذا التعاون، وخلق جسور ملموسة بين لبنان وقواه الحيَوية في الخارج.
في لجّة هذه التطوّرات، من الطبيعي أن تبرز مسألة الاستثمار. فعلى عكس بعض الدول، لن يكون لبنان قادراً على المنافسة من حيث دعم البنى التحتية الرقمية. لكن بإمكانه اتخاذ وجهة نظر استراتيجية معاكسة، بالانتقال إلى مجالات ذات قيمة مضافة عالية: كالذكاء الاصطناعي للغات الأقل تمثيلاً، والأدوات التعليمية للسياقات ذات الاتصال المنخفض، وتطبيقات الرعاية الصحية التي تتكيّف مع البيئات الهشة، ومنصات المواطنين للحَوكمة المحلية، إلخ.
أماّ بالنسبة إلى الحكومة اللبنانية، وعلى رغم من تعيين وزير للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، فتأجيل صياغة القوانين والسياسات العامة في مجال يتطوّر بسرعة هائلة، يُعَدّ بمثابة تخلٍّ عن أي شكل من أشكال القيادة. فعدم وجود إطار قانوني للبيانات، أو السرّية، أو الملكية الفكرية، أو استخدام الخوارزميات في الإدارة العامة يحول دون تنفيذ خدمات عامة رقمية موثوقة وشفافة تتكيّف مع احتياجات المواطنين.
من وجهة نظر اقتصادية، يبرز الخوف من أن يؤدّي تعليم الذكاء الاصطناعي إلى تسريع هجرة المواهب الشابة، فنقص الفرص المحلية يدفع الخرّيجين إلى المغادرة. لكن بالاستثمار في الذكاء الاصطناعي يمكن أن يصبح لبنان مركزاً إقليمياً للتميّز، وتدريب جيل من المتخصّصين القادرين على دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في جميع القطاعات: المالية، التعليم، الزراعة، التخطيط الحضري، والطاقة.
لا يتطلّب بالضرورة تدريب هذا الجيل الجديد إصلاحاً شاملاً للشهادات. فيمكن إيجاد مسارات بديلة متوازية، مثل: ورش العمل العملية، الدورات التدريبية المكثفة، والشهادات المتخصّصة، والتعليم الهجين. فالمفتاح هو تقديم فرص تعليمية ملموسة، قابلة للتكيّف مع مختلف الملفات الشخصية، الإيقاعات، والسياقات.
إنّ مستقبل لبنان لا يجري فقط في أروقة السلطة أو في الأسواق المالية وحسب، بل يُبنى في الفصول الدراسية والمختبرات، والمكتبات المتصلة بروبوتات الدردشة، ويعتمد على القدرة على تجهيز شبابها، وتعبئة ذكائها الجماعي، والتعبير عن قوّتها الداخلية بمواردها المختلفة. ويعتمد ذلك على رؤية بلد يختار تشكيل الذكاء الاصطناعي بدلاً من المعاناة منه، بلد يرفض أن يُمحى من التاريخ التكنولوجي في القرن الـ21.
ختاماً، نجد أنّ الحاجة الملحّة ليست تقنيّة فقط: بل تعليمية، اقتصادية، أخلاقية، ووجودية. فالذكاء الاصطناعي وحده لن ينقذ لبنان. لكنّه يمكن أن يوفّر الأدوات اللازمة للتفكير بوجهٍ مختلف، في إعادة الإعمار ومشاركة المواطنين والعدالة الاجتماعية والابتكار المقتصد.
«بصراحة» لقد حان وقت العمل الآن، فنقول للبنان: «عندي ثقة فيك»، فيستعيد قبل كلّ شيء، قدرته إلهام شبابه بالأمل، لأنّه «إيه في أمل... وأوقات بيطلع من ملل».