في 13 تشرين الأول الجاري، منحت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، جائزتها الأخيرة لهذا الموسم، ونقصد جائزة نوبل في الاقتصاد، التي قُدِّمت لثلاث شخصيات بارزة في مجال البحوث الاقتصادية المعاصرة، وهم: فيليب أغيون، جويل موكير، وبيتر هاويت، وذلك تقديراً لعملهم في مجال النموّ الاقتصادي المدفوع بالابتكار. وقد حصل المؤرِّخ جويل موكير على نصف المكافأة عن عمله بشأن الجذور الثقافيّة، والفكرية للثورة الصناعيّة، فيما تقاسم فيليب أغيون، وبيتر هاويت النصف الآخر عن تطوير نظرية شومبيتر للنموّ، التي تركّز على «التزعزع الإبداعي».
يوضّح هذا التكريم، كيف أصبحت المناقشات عن الإنتاجية، التحوّل التكنولوجي، والاستدامة، محورية في التفكير الاقتصادي العالمي. وأكّدت الأكاديمية أنّ العالم شهد، للمرّة الاولى في التاريخ، «نمواً اقتصادياً مستداماً على مدار القرنَين الماضيَين»، وأنّ أبحاث هؤلاء الفائزين ساعدت في فهم الآليات التي تجعل هذا النموّ ممكناً، أو تُهدّده في بعض الحالات.
في العودة إلى موضوع الجائزة، يصف مفهوم «التزعزع الإبداعي»، الذي روّجه جوزيف شومبيتر في أربعينات القرن المنصرم، الديناميكية التي تحل بها الابتكارات مكان التقنيات القديمة، ممّا يؤدّي في الوقت نفسه إلى دفع عجلة التقدّم والتغيير. وقد حدّث فيليب أغيون وبيتر هاويت هذا المفهوم بترجمته إلى نموذج رياضي دقيق، يشرح كيف أنّ دورات الابتكار والتقادم تغذّي النموّ على المدى الطويل.
كما تتجاوز مساهمتهما النمذجة الاقتصادية البسيطة، فهي تستند إلى نظرة إنسانية للاقتصاد، حيث الإبداع والتعليم والبحث والمنافسة هي محرّكات التقدّم الجماعي. فغالباً ما يؤكّد أغيون أنّ «النموّ لا يمكن أن يُفرض؛ بل يجب أن يُزرع». فهو يعتمد على مؤسسات قوية، بيئة مؤاتية لريادة الأعمال، ومجتمع يقدّر المعرفة.
علاوةً على ما ذُكِر، وفي وقت تسعى فيه الدول إلى التوفيق بين الازدهار الاقتصادي، واحترام حدود الكوكب، فإنّ أفكار الحائزين على جائزة نوبل للاقتصاد هذه السنة تكتسب أهمّية كبيرة. إذ لا تُمجّد نظريّتهم النموّ لذاته، بل تؤكّد على أهمّية الابتكار المستدام، أي الابتكار الذي يزيد من رفاهية الإنسان مع الحفاظ على الموارد المستقبلية.
يذكّرنا جويل موكير، المؤرِّخ الاقتصاديّ، بأنّ الثورة الصناعيّة لم تكن مجرّد تحوّل تكنولوجي، بل كانت أيضا تحوّلاً ثقافياً قائماً على الثقة في التقدّم، وتداول الأفكار، والتعليم العلميّ. ولا تزال هذه الدراسة صحيحة حتى اليوم، فمن دون مناخ فكري منفتح وسياسات تعليمية وبحثية طموحة يتلاشى الابتكار ويذبل.
من ناحية أُخرى، تتردّد أصداء جائزة نوبل لعام 2025 بقوّة في عالم يواجه اضطرابات عميقة، تتجلّى في الثورة الرقمية، الذكاء الاصطناعي التوليدي، أزمة المناخ، التوترات الجيوسياسية، وتزايد التفاوتات الطبقية. لذلك، يذكّرنا فيليب أغيون بشكل قاطع أنّ «الاستثمار في التعليم والبحث والتطوير أمر بالغ الأهمية للحفاظ على القدرة التنافسية. فيجب ألّا نُضحّي بالمستقبل من أجل قيود الحاضر».
هكذا، يُشجّع نهجه الحكومات على الابتعاد عن التفكير قصير المدى والاستثمار في عوامل المرونة، أي التعليم المستمرّ، والتحوّل في قطاع الطاقة، والحَوكمة الرشيدة. كما يدعو إلى إعادة النظر في الضرائب، حتى لا يُكبَح الابتكار مع ضمان العدالة الاجتماعية.
تُظهِر مسيرة فيليب أغيون المهنية أنّ الاقتصاديِّين يمكن أن يكونوا باحثين ومشاركين في النقاش العام في آنٍ واحد. فرسالته المحورية واضحة، يجب أن تكون الدولة مصدر تحفيز للابتكار، ليس بتوجيه الاقتصاد، بل بتهيئة الظروف المؤاتية للبحث، المنافسة العادلة، والحراك الاجتماعي.
يتماشى هذا المفهوم مع الإنسانية الاقتصادية الأوروبية، التي ترفض كلاً من الحتمية التكنولوجية، والقدرية الاجتماعية. فيجب أن يكون النموّ شاملاً ومستداماً وإبداعياً، وهي ثلاثية تسعى العديد من البلدان النامية إلى تحقيقها.
في ضوء جائزة نوبل للاقتصاد هذا العام، ثمّة الكثير ممّا يجب على لبنان إعادة التفكير فيه. فبعد سنوات من الأزمة الاقتصادية، المالية، والمؤسسية، يواجه البلد انهيار رأس ماله البشري، وهجرة غير مسبوقة، وفقدان الثقة في المؤسسات العامة.
ومع ذلك، فإنّ نتائج هذه الأبحاث الاقتصادية تقدّم بصيصاً من الأمل، حتى في أكثر البيئات تقييداً. إذ يمكن إحياء النمو عن طريقة الابتكار والمعرفة. ويتمتّع لبنان برأس مال فكري رائع، وجامعات ديناميكية، ومغتربين من ذوي المهارات العالية. لكن لتحويل هذه الأصول إلى محرّك للتنمية، ثمة حاجة إلى تغيير هيكلي، وذلك عن طريق إعادة بناء الثقة في الدولة والحوكمة الاقتصادية، والاستثمار في البحث والتعليم العالي والتكنولوجيات الناشئة، وتشجيع التعاون بين القطاع الخاص والجامعات والشركات الناشئة، وتعزيز سياسات الابتكار الأخضر والرقمي، التي تدعم الاستدامة والتوظيف.
كذلك، يمكن للبنان، أن يركّز على نظم الابتكار المحلية التي تستند على تكنولوجيا المعلومات والطاقة المتجدّدة، والأعمال الزراعية المستدامة، والتكنولوجيا المالية. كما يمكن أن تصبح هذه القطاعات ركائز النموّ الشامل، القادرة على إعادة خلق القيمة من دون توسيع الفجوات.
إنّ التحدّي هائل، حيث النموّ بطيء، والثقة في النظام الماليّ منهارة. لكن، كما يشير جويل موكير، «إنّ التقدّم ليس مضموناً أبداً». فهو يعتمد على قدرة المجتمع على الحفاظ على حرّية الابتكار، تشجيع المخاطرة، والاعتراف بقيمة المعرفة.
ستعتمد مرونة لبنان الاقتصادية على خلق بيئة مؤاتية لريادة الأعمال، رقمنة الخدمات العامة، وتنفيذ إصلاحات تعليمية تربوية تعزّز التفكير النقدي، والبحوث التطبيقية. كما يمكن للجامعات اللبنانية أن تؤدّي دوراً رائداً في هذا التحوّل بزيادة دمج اقتصاد الابتكار في مناهجها الدراسية، وتطوير شراكات إقليمية ودولية.
تذكّرنا جائزة نوبل لعام 2025 بأنّ النموّ لا يُقاس فقط بالناتج المحلي الإجمالي وحسب، بل بقدرة المجتمع على إعادة الابتكار. إذ يمكن أن يؤدّي التزعزع الإبداعي، إذا لم ترافقه سياسات الإدماج والتدريب، إلى إحداث انقسامات اجتماعية.
بالتالي، فإنّ التحدّي الذي نواجهه، كما الحال لدى جميع الاقتصادات الانتقالية، هو إيجاد توازن بين الابتكار والتماسك الاجتماعي، وبين الانفتاح والحماية، وبين الكفاءة والإنصاف.
إنّ اقتصاد الغد سيكون مستداماً أو لن يكون على الإطلاق. سيتعيّن عليه أن يدمج البُعد البيئي، في صميم نماذج النموّ. وبذلك الاستثمار في رأس المال البشري، وحماية البيئة، وتعزيز المعرفة كسلعة عامة عالمية.
أخيراً، نجد أنّ جائزة نوبل في الاقتصاد لا تقتصر على تكريم الباحثين وحسب، بل تحتفي برؤية للعالم حيث يسير التقدّم التكنولوجي جنباً إلى جنب مع المسؤولية الإنسانية. كما تذكّرنا، بأنّ النموّ ليس أمراً مفروغاً منه، بل هو جهد جماعي، مدفوع بالفضول، العلم، الحرّية، والتعاون.
ختاماً، عسى أن تكون جائزة نوبل هذه بمثابة دعوة للعمل في المشهد اللبناني، في الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والابتكار، وتمكين شبابه وشاباته، ودعم باحثيه وروّاد أعماله. وفي بلد يُنظر إليه غالباً من منظور الأزمات، حان الوقت لإعادة اكتشاف مصدر آخر للطاقة، مصدر المعرفة الإبداعية. فالمستقبل ليس شيئاً يجب تحمّله، بل شيء يجب بناؤه، والاقتصاد، إذا فُهم بشكل صحيح، يظلّ أحد أقوى أدواته للتحوّل.