مقدّمة
أصبحت الكارثة الإنسانيَّة، التي تتكشَّف في غزَّة، واحدة من أشدِّ الأزمات الأخلاقيَّة والحقوقيَّة إلحاحًا في القرن الحادي والعشرين. فبعد ما يقارب العامَين من الحصار والقصف والتهجير القسريِّ المتواصل، يواجه قطاع غزَّة ظروفًا وصَفَها الخبراء الدوليُّون، ووكالات الأمم المتَّحدة، والمدافعون عن حقوق الإنسان بأنَّها ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعيَّة والعقاب الجماعيّ. ولم يقتصر الدمار المستمرُّ على طمس البنية التحتيَّة الحيويَّة وتدمير الاقتصاد المحلِّيّ فحسب، بل ترَك السكَّان المدنيِّين، ولا سيَّما النساء والأطفال، عالقين في دوَّامة من الحرمان والصدمة والجوع، مع احتمال ضئيل للإغاثة الفوريَّة.
تتناول المقالة هذا الواقع المأساويَّ من وجهات نظر متعدِّدة ومترابطة. فتبدأ باستكشاف الانهيار الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ تحت وطأة الحصار والحرب، ثمَّ تنتقل إلى معاناة النساء والأطفال الذين يتحمَّلون العواقب الأشدَّ وطأة من النزوح، وسوء التغذية، وفقدان إمكانيَّة الوصول إلى الخدمات الأساسيَّة. كما تنظر المقالة في دور المنظَّمات الإنسانيَّة التي تعمل في ظلِّ ظروف مقيِّدة مفروضة على الوصول، والتهديدات الأمنيَّة ومحدوديَّة دورها. وأخيرًا، نتأمَّل في السيناريوهات المستقبليَّة المحتملة لتعافي غزَّة أو مزيد من تدهورها، مستندين إلى توقُّعات الهيئات الدوليَّة والخبراء الميدانيِّين. بنسج هذه الأبعاد معًا، لا تسعى المقالة إلى توثيق حجم الدمار الذي لحق بغزَّة فحسب، بل تسعى إلى تسليط الضوء على الضرورات الأخلاقيَّة والقانونيَّة والسياسيَّة المُلحَّة للعمل الإنسانيِّ والاقتصاديّ.
١. تأثيرات حرب غزَّة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة
يشهد قطاع غزَّة منذ تشرين الأوَّل/أكتوبر ٢٠٢٣ انهيارًا اقتصاديًّا تفاقَم بسبب الحصار المفروض منذ أكثر من ١٨ عامًا، والتقييد الممنهَج للتنقُّل، والتجارة، وتطوير البنية التحتيَّة.
١.١. الانهيار الاقتصاديّ
وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائيِّ والإسكوا[1]، انكمش الناتج المحلِّيّ الإجماليُّ لغزَّة أكثر من ٨١٪ في الربع الأخير من العام ٢٠٢٣. وأدَّى الصراع إلى خسارة ٧,١ مليار دولار أميركيٍّ من الناتج المحلِّيِّ الإجماليِّ المحتمل في أقلِّ من عام. وتسبَّب تدمير البنية التحتيَّة والأراضي الزراعيَّة والشركات إلى صدمة اقتصاديَّة تشبه ظروف العام ١٩٥٥، ما أسفر عن تراجع التنمية الاقتصاديَّة بنحو سبعة عقود.
وأفاد مؤتمر الأمم المتَّحدة للتجارة والتنمية[2] عن أنَّ أكثر من ٨٢٪ من الشركات في غزَّة قد توقَّفت عن العمل. وقد انهارت قطاعات رئيسة مثل الصناعة، والبناء، والخدمات، والزراعة. أمَّا سوق العمل الذي كان هشًّا في البداية فقد انهار كلِّيًّا، حيث بلغت نسبة البطالة أكثر من ٧٥٪.
أمَّا فيما يخصُّ الأضرار فقد قدَّرتها وزارة الاقتصاد الوطنيِّ الفلسطينيَّة بأكثر من ٣٠ مليار دولار أميركيّ[3]، بما في ذلك خسائر فادحة في الطاقة، والمياه، والصرف الصحِّيِّ، والإسكَّان، والطرق، والمباني العامَّة، والاتِّصالات.
وقد أشار البنك الدوليُّ[4] إلى أنَّ أسعار الموادِّ الغذائيَّة ارتفعت بنسبة تصل إلى ٢٥٠٪، خصوصًا القمح والأرزّ والألبان. وعانى القطاع الزراعيُّ من دمار هائل، حيث أصبحت أكثر من ٦٣٪ من الأراضي الزراعيَّة غير صالحة للاستخدام بسبب القصف أو نقص الريّ.
٢.١. العواقب الاجتماعيَّة
نزح قرابة مليونَي شخص (حوالى ٨٥٪ من السكَّان) داخليًّا عدَّة مرَّات منذ بداية الصراع الأخير، وفقًا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانيَّة. وتؤدِّي عمليَّات النزوح هذه إلى حالةٍ مزمنة من عدم الاستقرار، حيث يضطرُّ الناس إلى العيش في ملاجئ مكتظَّة أو مخيَّمات تفتقر إلى المرافق الصحِّيَّة.
بالإضافة إلى ذلك، انهار نظام الرعاية الصحِّيَّة. فاعتبارًا من منتصف العام ٢٠٢٥، لم يبقَ سوى ٧ مستشفيات فقط من أصل ٣٦ تعمل بوجهٍ جزئيّ، وهي بحدِّ ذاتها تُعدُّ منهكة. وثمَّة نقص حادٌّ في الأدوية، والطواقم الطبِّيَّة، والوقود، والكهرباء، فغالبًا ما تُجرى العمليَّات الجراحيَّة من دون تخدير.
وقد انخفضت إمكانيَّة الحصول على المياه النظيفة إلى أقلِّ من ٣ لترات للشخص الواحد في اليوم، أي أقلُّ بكثير من الحدِّ الأدنى الدوليِّ للطوارئ وهو ١٥ لترًا. وتتسبَّب المياه الملوَّثة في تفشِّي الإسهال والأمراض المنقولة بالمياه على نطاق واسع[5].
أمَّا الصحَّة النفسيَّة فهي أزمة متنامية، إذ يشير علماء النفس في الأونروا إلى أنَّ ما يصل إلى ٩٠٪ من الأطفال والبالغين يُبدون علامات اضطراب ما بعد الصدمة والقلق والاكتئاب. ويتحدَّث الأهل عن فقدان أطفالهم القدرة على الكلام أو تراجع نموِّهم. بالإضافة إلى ما ذُكِر، ثمَّة أكثر من ٦٠٠,٠٠٠ طفل خارج المدارس، بما أنَّ ٩٥٪ من المدارس قد تضرَّرت أو دُمِّرت كلِّيًّا، أو قد استُخدمَت هذه المدارس كملاجئ، ما زاد من تدهور الأوضاع[6].
٢. حالة النساء والأطفال في غزَّة
كان للحرب تأثير أكبر في النساء والأطفال، ما حوَّل قطاع غزَّة إلى واحد من أخطر الأماكن على وجه الأرض سواءً للأمَّهات والمراهقات، أو الأطفال.
١.٢. النساء: مواجهة الحرب والأمومة والبقاء على قيد الحياة
تشير التقديرات اعتبارًا من تمُّوز/ يوليو ٢٠٢٥ إلى مقتل أكثر من ٩,٠٠٠ امرأة، بما في ذلك الأمَّهات، ما أدَّى إلى تيتُّم عشرات الآلاف من الأطفال[7]. إذ تحتاج ما يقدَّر بنحو ٦٩٠,٠٠٠ امرأة وفتاة في سنِّ الإنجاب إلى موادِّ النظافة الصحيَّة الأساسيَّة شهريًّا. ونظرًا لتدمير سلاسل التوريد وعدم إمكانيَّة الوصول إلى الأسواق فإنهنَّ يتعرَّضن للإصابة بالعدوى والصدمات الخطيرة.
وتواجه النساء الحوامل ظروفًا تهدِّد حياتهنَّ. فوفقًا لمنظَّمة الصحَّة العالميَّة، تفتقر أكثر من ٥٠,٠٠٠ امرأة حامل في غزَّة إلى الرعاية قبل الولادة. والكثير منهنَّ يلدن في الخيام أو المدارس أو تحت الأنقاض، من دون وجود أخصَّائيِّين صحيِّين مهرة، أو عمليَّات تخدير، أو مضادَّات حيويَّة.
٢.٢. الأطفال جيلٌ محطَّم
وصفت منظَّمة اليونيسف قطاع غزَّة في العام ٢٠٢٥ بأنَّه "مقبرة للأطفال". فحتَّى أيَّار/ مايو منه، قُتِل أكثر من ١٧,٠٠٠ طفل، وأصيب آلاف آخرون بتشوُّهات أو إعاقات دائمة. كما أنَّ بعضهم فَقَد أطرافه، وآخرين أصيبوا بالعمى أو التشوُّهات. وخسر العديد منهم عائلاتهم بأكملها، فأضحوا من دون مقدِّمي الرعاية[8].
كما لوحظ تفشِّي الصدمة النفسيَّة طويلة الأمد، إذ يُفيد الخبراء السريريُّون أنَّ العديد من الأطفال لم يعودوا يتكلَّمون أو يلعبون أو يُظهرون استجابات عاطفيَّة نموذجيَّة. في حين يعاني العديد من ظروف شبيهة بالمجاعة، وقد وضع التصنيف المرحليُّ المتكامل للأمن الغذائيِّ هذا القطاع في المرحلة الخامسة، أي "مجاعة كارثيَّة"، ما يؤثِّر على أكثر من ١,١ مليون شخص معظمهم من الأطفال والنساء، يقتات الكثير منهم العشبَ، أو علفَ الحيوانات، أو قد يشرب المياه المالحة.
٣. دور المنظَّمات الإنسانيَّة: بين الاستجابة لحالات الطوارئ والعوائق الهيكليَّة
تعدُّ الأزمة الإنسانيَّة في غزَّة واحدة من أكثر الأزمات تعقيدًا في التاريخ الحديث. ففي الوقت الذي تعمل فيه عشرات المنظَّمات الدوليَّة والمحلِّيَّة في ظلِّ ظروفٍ بالغة الخطورة ومقيِّدة للغاية، تواجه جهودُها عقبات هائلة - لوجستيَّة وسياسيَّة وأخلاقيَّة.
١.٣. الأمم المتَّحدة والجهات الفاعلة الإنسانيَّة الرئيسة
لطالما كانت وكالة الأمم المتَّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيِّين في الشرق الأدنى (الأونروا)، أكبر المنظَّمات وأكثرها ثباتًا في غزَّة منذ عقود. وعلى الرغم من مقتل أكثر من ١٩٠ من موظَّفيها منذ تشرين الأوَّل/ أكتوبر ٢٠٢٣ - وهو أعلى عدد من القتلى في صفوف موظَّفي الأمم المتَّحدة في أيِّ نزاع في تاريخها - تواصل الوكالة تقديم الطرود الغذائيَّة، والمساعدات في مجال الإيواء، والخدمات التعليميَّة، والصحيَّة المحدودة.
كما ركَّزت اليونيسف، وهي الوكالة الرائدة في مجال حماية الطفل، على توفير المياه النظيفة، واللقاحات، والمكمِّلات الغذائيَّة، والدعم النفسيِّ والاجتماعيّ، بالإضافة إلى إنشاء مساحات صديقة للأطفال في الملاجئ، والمخيَّمات، للسماح للأطفال المصابين بصدمات نفسيَّة باللعب والتعلُّم. كذلك توزيع الحوالات النقديَّة على النساء الحوامل، والأشخاص ذوي الإعاقة، والأُسر التي لديها أطفال صغار.
وقد أطلق برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائيُّ (UNDP) برنامج التوظيف السريع، حيث تمَّ توظيف أكثر من ٣٠٠٠ شخص، بما في ذلك المدرِّسين والعاملين في مجال الصحَّة وموظَّفي الخدمات اللوجستيَّة. وليس الهدفُ من ذلك ضخَّ الدخل في المجتمعات المحلِّيَّة الممزَّقة وحسب، بل الحفاظ على ما يشبه توفير الخدمات العامَّة في مجالات التعليم، والصرف الصحِّيِّ، والحوكمة المحلِّيَّة[9].
كذلك، تكافح منظَّمة الصحَّة العالميَّة وصندوق الأمم المتَّحدة للسكَّان لدعم البنية التحتيَّة الصحيَّة المنهارة. وقد أصدر برنامج الأغذية العالميّ، ومنظَّمة الأغذية والزراعة نداءات عاجلة لتوسيع نطاق توصيل الموادِّ الغذائيَّة، ولا سيَّما في شمال غزَّة حيث أكَّدت وكالات متعدِّدة وجود مجاعة.
٢.٣. القيود المفروضة على تقديم المساعدات واستهدافها
لا يزال الوصول إلى غزَّة مقيَّدًا بشدَّة، ولم يُسمَح إلَّا بإيراد جزء بسيط من المساعدات اللازمة إلى القطاع، بواقعِ أقلَّ من ١٥٠ شاحنة في اليوم في كثير من الأحيان، بينما كان المتوسِّط قبل الحرب أكثرَ من ٥٠٠ شاحنة. وقد تمَّ تأخير أو منع دخول الوقود، والمعدَّات الطبِّيَّة، وبعض الموادِّ الغذائيَّة الأساسيَّة لأسابيع.
كما تعرَّضت القوافل مرارًا وتكرارًا لإطلاق النار من الجوِّ أو من القنَّاصة، مع وقوع حوادث تدافُع بين المدنيِّين أو وفيات بالقرب من شاحنات الغذاء. وأثار حادث وقع في شباط / فبراير ٢٠٢٥ غضبًا دوليًّا، حيث قُتل أكثر من ١٠٠ شخص أثناء اصطفافهم في طوابير للحصول على الدقيق.
ووفقًا لمنظَّمة "أطبَّاء بلا حدود" ومنظَّمة "مراقبة حقوق الإنسان" (Human Rights Watch)، فإنَّ بعض مراكز الإغاثة، ولا سيَّما تلك التي تديرها مؤسَّسة غزَّة الإنسانيَّة، أصبحت مواقع "لعمليَّات قتل مدبَّرة"، حيث أفادت تقارير عن استخدام المساعدات في استدراج الحشود التي تعرَّضت للهجوم بعد ذلك. ودعت منظَّمة "أطبَّاء بلا حدود" إلى إجراء تحقيقٍ كامل وتعليق عملِ هذه المراكز على الفور.
كذلك، فإنَّ التنسيق بين منظَّمات الإغاثة مجزَّأ، حيث تشكو بعض الجهات الفاعلة، وخصوصًا المنظَّمات غير الحكوميَّة الأصغر حجمًا، من عدم وجود بروتوكولات واضحة للوصول إلى المساعدات، وآليَّاتِ توزيع غيرِ شفَّافة وشراكات غير متكافئة.
من ناحية أُخرى، تطوَّرت المنظَّمات غير الحكوميَّة الفلسطينيَّة المحلِّيَّة بوجهٍ كبير، وغالبًا ما تتحمَّل أكبر المخاطر. وتواصِل منظَّماتٌ مثل "الهلال الأحمر الفلسطينيّ"، وجمعيَّة "عائشة لحماية المرأة والطفل"، و"مركز الميزان لحقوق الإنسان" العملَ على الرغم من الخسائر الهائلة في الموظَّفين، والبنية التحتيَّة، والتمويل الدوليّ.
٣.٣. إرهاق المعونة والضغوط الجيوسياسيَّة
تواجه الجهات الإنسانيَّة الفاعلة في مجال العمل الإنسانيّ إرهاقًا من المانحِين، يتضاعف في إثر بعض ردود الفعل السياسيَّة العنيفة، إذ علَّق بعض المانحين الرئيسين التمويل لفترة وجيزة في أوائل العام ٢٠٢٤، في ظلِّ الحاجة الماسَّة إليه. وعلى الرغم من أنَّ بعضهم قد استأنف الدعم الماليَّ، إلَّا أنَّ الضرر الذي لحق باستمراريَّة العمليَّات كان شديدًا. وعلى نحو متزايد، تجد المنظَّمات نفسها عالقة في مرمى النيران السياسيَّة، مُتَّهمَة بالانحياز من قِبل جميع الأطراف، على الرغم من التزامها بمبادئ الحياد.
٤. التوقُّعات المستقبليَّة: إعادة البناء وسط الخراب أم الانهيار المطوَّل؟
لا تزال الآفاق طويلة الأمد، قاتمة وغير مؤكَّدة بما يخصُّ وضع قطاع غزَّة بسبب عمق الدمار، والمأزق السياسيِّ، وإمكانيَّة (أو عدم وجود) وقف إطلاق نار مستدام، وإطار عمل لإعادة الإعمار.
١.٤. آفاق التنمية البشريَّة
يحدِّد تقرير برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائيُّ والإسكوا الصادر في العام ٢٠٢٤ مسارَين لسيناريوهات التعافي المشترك: السيناريو الأوَّل، يتطلَّب الحدَّ الأدنى من الاستجابة الإنسانيَّة، إذ تصبح غزَّة معتمِدة بالكامل على المساعدات. هكذا، يتعمَّق الفقر، وتبقى البطالة فوق معدَّل ٦٠٪، وتتجمَّد التنمية. كما تصبح المنطقة عبارة عن حالةِ طوارئ إنسانيَّة دائمة. أمَّا السيناريو الثاني، أي التعافي المبكِّر، فمع وقف إطلاق نارٍ دائم، وإعادة إعمارٍ منسَّقة، ورفع القيود المفروضة على الحركة، وإيجاد تمويل دوليٍّ بقيمة ٤ مليارات دولار أميركيّ سنويًّا على مدى ٥ سنوات، يمكن أن تبدأ غزَّة في إعادة بناء بنيتها التحتيَّة، وتحفيز الإنتاج المحلِّيِّ، وخفض البطالة إلى مستوى ٢٦٪ في غضون ١٠ سنوات[10].
ومع ذلك، فمن غير المرجَّح أن تكون إعادة الإعمار من دون تسوية سياسيَّة أمرًا مستدامًا. وكما تبيَّن بعد حرب العام ٢٠١٤ فإنَّ تعهُّدات المانحين لا تتحقَّق دائمًا، كما أنَّ الانسداد السياسيَّ يعيد تجميد التقدُّم.
٢.٤. الأطفال والتعليم: مفتاح أيِّ مستقبل؟
يُفضي الخبراء بأنَّه من دون الاستثمار السريع في الصحَّة النفسيَّة، وتعليم الطفل وحمايته، سيظهَر جيل ضائع. ويتنبَّأ علماء النفس التربويِّ بتراجعٍ طويل الأمد في التحصيل الأكاديميِّ، والتنمية الاجتماعيَّة، والمشاركة المدنيَّة.
لذلك، يجب إعطاء الأولويَّة لإعادة بناء المدارس والمكتبات ومراكز التدريب، كما يجب إعادة بناء ٤٠٠ مدرسة على الأقلِّ من الصفر. يُضاف إلى ذلك تدريب المعلِّمين على المناهج المتخصِّصة بالصدمات النفسيَّة. في حين قد تساعد منصَّات التعلُّم الرقميِّ والدروس الخصوصيَّة عن بُعد، والتعليم المجتمعيُّ في سدِّ الفجوات على المدى القصير، لكنَّها تتطلَّب الوصول إلى الإنترنت، والكهرباء، والدعم المؤسَّسيّ، وهي أمور نادرة حاليًّا.
٣.٤. المرأة وإعادة البناء الاجتماعيّ
يجب أن يكون تمكين المرأة محورَ أيِّ استراتيجيَّة للتعافي. كما يتوجَّب إشراك المنظَّمات النسائيَّة في غزَّة في جميع خطط إعادة الإعمار، لا كونهنَّ متلقِّيات المساعدات، بل كرائدات في مجالات الرعاية الصحِّيَّة، والتعليم، والتمويل الصغير، وبناء السلام. فالاستثمار في صحَّة الأمَّهات وأنظمة الاستجابة للعنف، وريادة الأعمال النسائيَّة، يمكن أن يبني القدرة على الصمود الاجتماعيِّ، ويساعد في إعادة لُحمة النسيج الاجتماعيّ.
٤.٤. الأبعاد القانونيَّة والسياسيَّة الدوليَّة
تتزايد، حاليًّا، الدعوات للمساءلة الدوليَّة. وتقوم "المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة" بالتحقيق في جرائم الحرب المحتملة، بما في ذلك استهداف المدنيِّين واستخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب. ومع ذلك، فإنَّ الإجراءات القانونيَّة بطيئة ومسيَّسة بوجهٍ كبير. عالميًّا، تتعالى الأصوات المطالِبة بالتحوُّل من الإغاثة الإنسانيَّة قصيرة الأجل إلى حماية حقوق الإنسان، والحلِّ السياسيِّ على المدى الطويل.
الخاتمة
لقد أوجدت الحرب على قطاع غزَّة، "غزَّة" في قلب الإنسانيَّة، باستمرار الحصار والقصف والحرمان المتعمَّد. وقد أدَّى الانهيار الاقتصاديُّ إلى تراجع التنمية لأجيال عديدة؛ في حين تواجه النساء والأطفال معاناة متفاقمة، بالإضافة إلى أنَّ النظام الإنسانيَّ الدوليَّ تعيقه المصالح السياسيَّة والقيود المادِّيَّة.
وتكشف البيانات الواردة في هذا المقال، المستقاة من مصادر الأمم المتَّحدة، والمنظَّمات الإنسانيَّة غير الحكوميَّة، عن مسار قاتم: فمن دون رفع فوريّ وشامل للحصار، واستعادة البنية التحتيَّة الأساسيَّة، وضمان وصول المساعدات الإنسانيَّة من دون عوائق، ستستمرّ غزَّة في الانزلاق إلى المجاعة، والنزوح الجماعيِّ، والانهيار الممنهج.
ومع ذلك، فإنَّ المستقبل ليس محدَّدًا سلفًا. فلا يزال بإمكان حصول استجابة عالميَّة منسَّقة، متجذِّرة في القانون الدوليِّ ومبادئ حقوق الإنسان، أن تجنِّبنا أسوأ النتائج. ولا يتطلَّب هذا الأمر حشد المساعدات فحسب، بل الإرادة السياسيَّة لمعالجة الأسباب الجذريَّة لعزلة غزَّة والدمار الذي حلَّ بها.
إنَّ القضية الأخلاقيَّة والإنسانيَّة واضحة، فالفشل في التحرُّك الآن سيؤدِّي إلى ترسيخ مأساة ستتجاوز عواقبها حدود غزَّة بكثير، وستُلطِّخ ضمير المجتمع الدوليّ لأجيال قادمة. فغزَّة اليوم ليست كارثة إنسانيَّة فحسب، بل اختبار أخلاقيٌّ للإنسانيَّة، حيث يتلاقى فيها الانهيار الاقتصاديُّ، والمعاناة الصحِّيَّة، وصدمات الأطفال، والشلل الجيوسياسيّ. وفي حين أنَّ المنظَّمات الإنسانيَّة توفِّر طوق النجاة، إلَّا أنَّها ليست بديلًا عن العدالة والكرامة والحلِّ السياسيِّ الشامل الذي يضمن حقوق الفلسطينيِّين، وينهي دوَّامة الحرب والحصار، ويُعيد الإعمار، حيث يعمُّ السلام... في بلاد أمير السلام.
_________
[1] M. Migdad, A. Migdad, I. Migdad, & A. Hassoun, (2025). Economic Devastation: The Impact of the Israeli War on Gaza’s Work and Economic Growth. In War on Gaza: Consequences on Sustainability and Global Security (pp. 219-230). Cham: Springer Nature Switzerland.
[3] The World Bank, Gaza & West Bank Interim Rapid Damage and Needs Assessment (IRDNA) Executive Summary, 2025.
[4] Wisam Samarah, “Gaza Genocide and a New Economic Reality” Gaza Genocide and a New Economic Reality, Journal of Applied Professional Studies, 6. 12-2025.
[5] B. Irfan, A. Clarisse, J. Smith, M. Tahir, E. Nasser, M. Wajahath, ... & K. J. Saleh, “Paediatric medical evacuations from Gaza have been obstructed and are increasingly difficult”, Medicine, Conflict and Survival, 2025, 1-9.
[6] M. Buheji & M. Migdad, “Displacement, destruction, and determination: Gazans experience of returning home during the truce”, Gradiva, 64 (2), 2025, 138-150.
[7] Y. Ashour, A. AbuJlambo, & A. Hassoun, “Gaza’s Health Emergency: Unprecedented Humanitarian Impact of the Recent War on Public Health”, In War on Gaza: Consequences on Sustainability and Global Security, 2025, (pp. 43-58). Cham: Springer Nature Switzerland.
[8] B. Harghandiwal, “Impact of the humanitarian crisis in Gaza on children’s health: Evidence and recommendations for mitigation, Global Public Health, 20 (1), 2025, 2495326.
[9] Hassoun, “Sustainability amid conflict: Gaza's environmental, social, and economic struggles”, Journal of Environmental Management, 376, 2025, 124433.
[10] A. Zeineddine, “The Role of International Aid and Development Assistance”, In Unveiling Developmental Disparities in the Middle East, 2025, (pp. 327-350). IGI Global.