الإنهيار الإقتصاديّ... هل هو الخطّة المنشودة؟

نُشر هذا المقال في جريدة الجمهوريّة، في ١٠-٤-٢٠٢١. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

عندما احتاجت الدولة اللبنانيّة إلى كبح جماح الإنفاق، تباهى السياسيّون حينها بزيادة رواتب القطاع العامّ قبل انتخابات العام ٢٠١٨. كما أدّى فشل الحكومة في تنفيذ الإصلاحات إلى منع المانحين الأجانب من تقديم مساعدات بمليارات الدولارات الأميركيّة التي سبق أن تعهّدوا بها.

إندلعت الشرارة الأخيرة للتظاهرات في تشرين الأوّل ٢٠١٩، في موازاة خطّة لفرض ضرائب على مكالمات الواتساب، وفي ظلّ النظام الضريبيّ المنخفض في لبنان الذي يميل لمصلحة الأثرياء، بالإضافة إلى الانتشار اللبنانيّ الواسع في الاغتراب، فإنّ فرض رسوم على الطريقة التي يتواصل بها كثير من اللبنانيّين مع أقاربهم كان كارثيًّا.

اندلعت احتجاجات حاشدة تقودها شبيبةٌ محبطة تُطالب بالتغيير الشامل، ضدّ النخبة السياسيّة الّتي تشتمل على كثير من أمراء الحرب المسنّين الذين ازدهروا حينها على حساب كفاح آخرين.

عند اندلاع الانتفاضة الشعبيّة، وبدلًا من أن تقرّ السلطة قانونًا عاجلًا يقرّ الحجز على الودائع (Capital Control)، تركت هذه السلطةُ الشعبَ والمؤسّسات يتخبّطان في الفوضى، كما لو كان ذلك مقصودًا عن سابق تصوّر وتصميم، لتحميل قسم كبير من الشعب اللبنانيّ وزر الخسائر الماليّة الناتجة من فساد فاضح وسياسات خاطئة ومُهمِلة لإدارة مقدّرات البلد وجنى عمر المواطنين على حدٍّ سواء.

نتيجة ذلك، وبعد سنة تقريبًا، جفّت تدفّقات النقد الأجنبيّ، وخرجت العملات الأجنبيّة من لبنان. لم يعد لدى البنوك ما يكفي منها لسداد مستحقّات المودعين الذين يقفون في طوابير خارج «أسوارها»، لذلك أغلقت المصارف أبوابها بكلّ بساطة. انهارت العملة اللبنانيّة، وانخفضت قيمتها من ١٥٠٠ ل.ل للدولار الأميركيّ الواحد، إلى سعر الشارع الذي وصل إلى سقف ١٥٠٠٠ ل.ل.

اليوم نسأل أنفسنا، لِمَ لم تبتكر سلطتنا الفاسدة قانونًا عصريًّا للحجز على الودائع، علمًا أنّ هكذا قانون كان يجب أن يُبصر النور في عام ٢٠١٨ على الأقلّ، أي قبل عام من اندلاع انتفاضة 17 تشرين. ففي العام ٢٠١٨، كان يُقدّر الصافي التراكميّ بالدولار الأميركيّ لدى المصارف اللبنانيّة بنحو ١٢ مليارًا، أمّا في تشرين الأوّل ٢٠١٩ سجّل الصافي التراكميّ رقمًا سلبيًّا بنحو ٢,٦ مليار دولار، ما يعني أنّ المصارف كانت تعاني وقد اعتادت أن تديّن أكثر ممّا تملك، وذلك قبل الدخول في عدم الاستقرار الظاهريّ الناتج من انتفاضة الشارع.

نتعجّب هنا، أنّه رغم وضوح الحالة لدى مصرف لبنان، والسلطة في طبيعة الحال، فهم لم يحرّكوا ساكنًا، لا بل أكملوا في سياسات الفوضى واللامبالاة. ماذا نستنتج من ذلك؟ هل أنّ تصرّفاتهم تنمّ فعلًا عن عدم اكتراث؟ أو سياسة مقصودة لإجبار الشعب اللبنانيّ على دفع الثمن كاملًا؟ عندما ننظر إلى جميع الفرص التي أُتيحت من دون الاستفادة من أيّ منها لتجنّب الانهيار، فإنّنا نميل إلى الشكّ في نيات السلطة السياسيّة الماليّة والمصرفيّة في لبنان. فالخطوة الأولى كما شرحنا سابقًا، كانت حتميّة إقرار الحجز على الودائع ووقف تهريبها إلى الخارج، حين قادت البلد نحو «الطريق السريع» للانهيار.

أمّا الفرصة الثانية التي فوّتت علينا كبح انزلاقنا في الانهيار، كانت خطّة Lazard. وعلى الرغم من بعض سلبيّاتها؛ فإنّ هذه الخطة كانت كفيلة لفرملة ما وصلنا اليه اليوم، بتوزيع عادل للخسائر المقدّرة بـ ٦٣ مليار دولار أميركيّ على الجميع. ولكن عوضًا عن ذلك، نجد أنّ من يحمل العبء هي الشريحة الأكبر من الشعب اللبنانيّ من صغار ومتوسّطي المودعين.

اليوم، نعرف جيّدًا أنّ خطّة Lazard قد نُسِفت، وكانت تهدف إلى اقتطاع ٢٠ مليار دولار أميركيّ من الودائع، والتفاوض مع المودعين الكبار بتحويل ودائعهم إلى رأس مال للمصارف، وجعلهم من حملة الأسهم ومن المساهمين المميّزين في المصرف. إذًا، كان من شأن خطّة Lazard أن تنقذ جزءًا كبيرًا من شريحة صغار ومتوسّطي المودعين، الذين يشكّلون ٩٨% من مجمل المودعين، وحمّلت الدولة العبء الأثقل على المودعين الكبار وأصحاب المصارف الذين يمتلكون ٢% من إجمالي الودائع. وفي الوقت عينه، كنّا قد يسّرنا مفاوضات سليمة وبنّاءة على الدين العامّ ومساره بطريقة آمنة. ولكن عوضًا عن ذلك، ماذا نشاهد اليوم؟

ـ أولًا، إنّ غياب الحجز على الودائع لم يوقف تهريب ودائع العملات الأجنبيّة إلى الخارج، وقد قُدّرت بالمليارات، ممّا يضع ضغطًا إضافيًّا على انهيار الليرة اللبنانيّة، خصوصًا بعد شح «العملة الصعبة» وتهريبها إلى الخارج.

ـ ثانيًا، المغامرة «التضخميّة» بطبع كميّات هائلة من العملة المحليّة من أجل امتصاص الودائع بالدولار الأميركيّ بصرفها على سعر ٣٩٠٠ ل.ل. وتسديد استحقاقات سندات الخزينة بكافّة أنواعها.

كلّ هذا يساهم في تدهور العملة الوطنيّة ويُسقطها سقوطًا حرًّا، ممّا يجعل صغار ومتوسّطي المودعين يدفعون الثمن الأكبر للخسائر، فتُهشّم الطبقة المتوسّطة، ويوسّع هامش الفقر في البلد.

لربما هذا المشهد الّذي عرضناه سريعًا مقصودًا وليس مفاجئًا، هو بالفعل لخطّة جهنّميّة تستبدّ بالشعب اللبنانيّ وتتحكّم به، وتحكمه بطريقة مذلّة.