عند الامتحان والنقل من اليونان... هل يُكرَم لبنان أم يُهان؟

نُشر هذا المقال في جريدة الجمهوريّة، في ٢٦-٦-٢٠٢١. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

كثيرون هم الذين يميلون إلى التفكير في أنّ حكّام البلاد لا يفقهون الأمور الاقتصاديّة، والفساد أبعد من إمكاناتهم على الإصلاح، وحالة لبنان الفريدة أعقد من مدارك السياسيّين في إدارة الأزمات لخبرتهم المحدودة. لكنّ حكومات الدول المجاورة التي اختبرت نوعًا من الأزمات الاقتصاديّة، وضعت خططًا للإنقاذ وبحثت عن مساعدة، أمّا الحكومة اللبنانيّة فتبحث وتطبّق خطة انهيار قد درستها بحذافيرها، وتطبّقها بصمتٍ على المدى المتوسط. ولنكتشف هذه الخطة، فإنّنا سنقارنها بالأزمات التي مرّت بها اليونان وقبرص، لنجد أنّ الحكومة اللبنانيّة تسرق الفكرة بلا تفكير، وتطبّق الخطّة بلا فهمٍ للمعايير.

نتحدّث عن الأزمة الاقتصاديّة في اليونان وكأنّها مماثلة لأزمتنا الاقتصاديّة، لكنّ التجاور الجغرافيّ والتاريخيّ لا يقود حتمًا إلى وحدة المسار والمصير كونها قاعدة نطبّقها «على الشاردة والواردة» كما اعتدنا في حقبة سابقة. في نظرة سطحيّة سريعة، قد يبدو سيناريو تطبيق الحجز على الودائع (كابيتال كونترول) وغيره متطابقًا بين اليونان وقبرص من جهة ولبنان من جهة أخرى، لكنّ سياق الأزمة الاقتصاديّة وخطط الإنقاذ بعيدان كلّ البعد عن أن يكونا متماثلين. فأين المجتمع الدوليّ؟ وهل ثمّة خطّة ملموسة عند صندوق النقد لتنفَّذ؟ أم أنّها مجرّد انتظارات لا يمكن أن تجد لها معبرًا طالما أن لا حكومة يمكن أن يَثق بها من يُريد مساعدتها؟

إذا حلّلنا خطّة الإنقاذ التي طُبقت في اليونان، نجد أنّ الدولة اليونانيّة قد نالت مساعدة ثلاثيّة من البنك المركزيّ الأوروبيّ، والاتّحاد الأوروبيّ، وصندوق النقد الدوليّ، لانتشالها من أزمتها الاقتصاديّة ضمن خطة متعدّدة المراحل. أمّا لبنان، فإنّه إلى هذه اللحظة لا يجد من يشفق على حاله من المجتمع الدوليّ لكي يمدّ له يد المساعدة بسبب عدم الثقة بحكوماته المتتابعة التي وصل فسادها إلى حدٍّ لا يمكن التغاضي عنه.

يجب أن نلفت الانتباه إلى أنّ العلاقة بين اليونان والاتحاد الأوروبي هي أوسع من مجرّد «قدر جغرافيّ»، فالعملة قاسم مشترك بعد انضمام اليونان إلى مجموعة اليورو عام ٢٠٠٢، وثمّة خطط متداخلة بين اليونان ومنطقة اليورو، وهي أعمق بكثير من علاقات لبنان بجيرانه التي لا تحكمها ضوابط ومصالح متبادلة ومتكافئة نوعًا ما. ومن ناحية أخرى، فإنّ المشهد الداخليّ في اليونان يختلف هو أيضًا بوجهٍ جذريّ، إذ سارعت الحكومة اليونانيّة على إدماج الرأي العامّ في تحديد مصير الدولة لا إقصائه، فصوَّت اليونانيّون في استفتاءٍ عام لمعرفة رأيهم وإضفاء الشرعيّة على قرار الحكومة، الأمر الذي سبقه إغلاق المصارف الفوريّ الحازم، وتطبيق الحجز على الودائع بطريقة صارمة بواسطة البنك المركزيّ اليونانيّ.

وإذا استرقنا النظر إلى جارٍ آخر، سنجد أنّ الأزمة الاقتصاديّة في قبرص هي نموذج آخر من تجارب الجوار الجغرافيّ. ففي آذار ٢٠١٣ كانت قبرص أوّل بلدٍ من منطقة اليورو يضع إجراءات حازمة على الودائع وتطبيق «الكابيتال كونترول» للحدّ من تهريب الأموال إلى الخارج بكميّات ضخمة. وكانت على شفير الإفلاس، إلى أن تمّ تنفيذ برنامج الإنقاذ الأوروبيّ للمرة الأولى، وقد دعا المودعين إلى المشاركة في دعم البلاد ماليًّا. ففي أوّل أيّام الذعر المصرفيّ، قام أفراد وشركات بسحب مليارات اليوروات من حساباتهم في غضون بضعة أيّام، ما هدّد مصارف البلاد بالانهيار التامّ.

لذلك، أغلقت الحكومة القبرصيّة كل المصارف في خلال أسبوعين، وتمّ تضييق السحوبات بالبطاقات الائتمانيّة، ومنعت التحويلات عبر الانترنت. على هذا النحو، لم يستطِع القبرصيّون سحب أكثر من ٣٠٠ يورو يوميًّا (أو ٥٠٠ يورو فقط للشركات)، ولم تُرفَع الضوابط على رؤوس الأموال نهائيًّا إلّا في نيسان ٢٠١٥، بعد سنتين عصيبتين، علمًا أنّ الضوابط المطبّقة على عمليّات الصرف دفعت خطّة الإنقاذ الأوروبيّة ومعايير تقشّف الدولة القبرصيّة إلى حالة الركود الاقتصاديّ، فسجّلت معدّل بطالة بلغ ١٦,٣ ٪، إذ قيل حينها: «يجب تثبيت الثقة باليورو، وهذا ما يتطلّب وقتًا».

على رغم من أنّ اليونان وقبرص جارانا المتوسطيّين وبلدان أوروبيّان قد عرفا خطتّين إنقاذيّتين أوروبيّتين، كان وضعهما مختلفًا جدًا، حيث قبلت قبرص بسرعة برنامج المساعدة الإنقاذيّ الذي أراده الدائنون. أمّا اليونانيّون فوجدوا أنفسهم حائرين إذا عادوا إلى التعامل بالدراخما (عملة بلدهم القديمة)، فحينها ستفقد الودائع المصرفيّة المحوّلة جزءًا كبيرًا من قيمتها مقابل اليورو. لذلك رأى اليونانيّون حتميّة انهيار قوّتهم الشرائيّة الخارجيّة بالإضافة إلى كل مشكلات ميزان مدفوعاتهم، فرضخوا لسياسة الأمر الواقع والتزموا باتّفاق اليورو في نهاية المطاف، لكن على حساب تأخير التعافي.

كان قرار اليونانيّين صائبًا على المستوى الوطنيّ إلى أقصى الحدود، فقد أرادوا طَي صفحة الأزمة الاقتصاديّة نهائيًّا. وبعد نجاح الخطّة الإنقاذيّة، رُفعت القيود المفروضة على رؤوس الأموال في المصارف ابتداءً من أيلول ٢٠١٩ بعد ٤ سنوات من تعميمها. فقد فرضَ أليكسيس تسيبراس (رئيس الوزراء اليونانيّ بين العامين ٢٠١٥-٢٠١٩) الحجز على الودائع في حزيران ٢٠١٥، من أجل تجنّب ذعر المصارف بعد أن رفض المصرف المركزيّ الأوروبيّ تعليق التمويل الطارئ المطبّق على المصارف اليونانيّة. فقد أُغلقت المؤسّسات المصرفيّة اليونانيّة مؤقّتًا لمدة ٣ أسابيع، مع تحديد سقف السحوبات من آلات الصرّاف الآليّ الى حدّ أقصاه ٦٠ يورو في اليوم الواحد، كما حوفِظ على تطبيق عمليّات التحكّم بأسعار الصرف على الأموال المحوّلة إلى الخارج.

تخطّت اليونان أزمتها تدريجًا في المرحلة الثالثة من خطّتها الإنقاذيّة في آب ٢٠١٨، وبذلك تحرّرت من الإشراف الماليّ الذي طبّقه ثالوث: البنك المركزيّ الأوروبيّ، والاتّحاد الأوروبيّ، وصندوق النقد الدوليّ، الذين ضخّوا أموالًا في السوق اليونانيّة بما يُقارب ٢٨٩ مليار يورو، مقابل تطبيق إجراءات إعادة تنظيم وهيكلة جذريّة.

نطرح الآن السؤال البديهيّ في خضمّ أزمتنا الاقتصاديّة: ما خطّتنا الإنقاذيّة اللبنانيّة الخالصة التي نجتهد في إيجادها من دون أن ننقلها بطريقة عمياء؟ بالطبع، إنّ أيّ خطّة ليست مجرّد محاولة ساذجة لنسخ تجارب أُخرى وكأنّ عقولنا بليدة تعجز عن إيجاد الحلّ المبتكر لأزمة ناهزت العامين إلّا نصف. كذلك، هل نقع دومًا في فخّ التطبيع الكسول في نقل تجارب الجيران وتنفيذها كما يميل بعضهم اليوم الى تطبيقها على مناحي حياتنا اليوميّة في السياسة، والاجتماع، والاقتصاد، وغيرها؟ والسؤال الأهمّ: ما الخطّة التي يمكن أن تجعل الشعب اللبنانيّ شريكًا في القرار على مثال الشعب اليونانيّ، أو مساهمًا في الاستثمار على مثال الشعب القبرصيّ بدل أن يدفع فارق الفجوة الماليّة من دون التمرّد على السياسيّين وتهيئة الأرضيّة لدخول صندوق النقد الدوليّ على لبنان المتهالك من الباب العريض، بعد تنفيذ دقيق ومتكامل لتلك «الخطّة الوسخة»؟

إذ انتقلنا الآن إلى المشهد اللبنانيّ سنجده وبكلّ بساطة مختلفًا كليًّا. فاللبنانيّون في صميم أزمة اقتصاديّة وماليّة حادّة، توحي بالفوضى وعدم وضوح المعالم، تحديدًا بما يتعلّق بقوانين الكابيتال كونترول، وتعاميم مصرف لبنان، وتوزيع الدولار الأميركيّ بالنقد الطازج... كما لا يعكس المشهد السياسيّ بدقّة ما يوحي اجتماعيًّا بالفوضى من حيث انّ اللبنانيّين أنفسهم يعزّزون دراما الانهيار في قلقهم المتزايد أمام هبوط قدرتهم الشرائيّة الحادّة، وشحّ المواد المدعومة الحيويّة كالدواء، والمحروقات، وحليب الأطفال، وكلّ ما يمكن أن يحفظ لهم حياة كريمة بالحدّ الأدنى.

عادةً، لكي يُلجم أيّ انهيار اقتصاديّ، يترتّب على الدولة مسؤوليّات وتكاليف ماليّة غير قادرة على تأمنيها. أمّا في التجربة اللبنانيّة في إدارة خطّة الانهيار، فإنّ الحكومة تضع كل لوائحها الماليّة وأرقامها الاقتصاديّة على حساب المواطن المسكين. وهذا يدلّ على أنّ الطبقة الحاكمة التي تتذرّع بعجزها أمام الأزمة كما التلميذ الذي يتحجّج بمقولة «صَعّبولنا الأسئلة»، إنّما هي بالحريّ صانعة إيّاها وضامنة لاستمراريّتها، لجعل الدولة تتهرّب من كل مسؤوليّاتها وتتّكِل في نهاية المطاف على «اللبنانيّ المعتّر» لتغطية الخسائر كلها.

غريبة هي الخطة اللبنانيّة في إدارة الأزمات التي تجعل المواطن يدفع كل تكاليف الخسائر، ويُغطّي على فشلها. فعلى سبيل المثال، كانت ممارسة المصارف المهيمنة على الودائع، واعتماد «الكابيتال كونترول» الاستنسابيّ في ظلّ تدهور الليرة اللبنانيّة، وتسديد الودائع المدولرة بالعملة المحليّة، قد سمحت للبنوك بدفع ديونها بالعملات الأجنبيّة، المتمثّلة بودائع اللبنانيّين بالليرة الوطنيّة عن طريق تزويد مصرف لبنان البنوك التجاريّة كميّات هائلة من الليرات اللبنانيّة (التي طُبع جزء منها حديثًا) لأجل ذلك الأمر. فنرى مرة أخرى أنّ المواطن اللبنانيّ يحمل وطأة الكلفة الأعلى لخسائر المصارف من خلال دفع مستحقّاتها بالعملات الأجنبيّة عن طريق عملته الوطنيّة المنهارة، فنراه منهارًا معها. وعلى رغم تبادل التُهم وتراشق المسؤوليّات بين الحكومة ومصرف لبنان والمصارف «ترويكا الأزمة الماليّة»، يمكن أن نستشفّ أنّ ثمّة تواطؤًا ضمنيًّا وواضحًا على الشعب اللبنانيّ لتصفية ديون الدولة، وتحميل أعبائها جميعًا على المودع اللبنانيّ.

في حين أنّ اليونان انتشلتها ترويكا إنقاذ كما ذكرنا سابقًا، يجد الشعب اللبنانيّ نفسه في ضائقته أمام ترويكا الأزمة الماليّة «التي لا ترحم ولا تترك رحمة المجتمع الدوليّ تنزل علينا». فالأغرب من كلّ ما ذُكِر، أنّ السياسيّين نجحوا في دبّ الخوف والقلق في نفوس اللبنانيّين، ما أدّى إلى تسريع تدهور العملة الوطنيّة، والقبول بممارسة «هيركات» شخصيّ مؤلِم يقوم به اللبنانيّ «بكامل قواه العقليّة» نظرًا لظروفه القاهرة، إذ وصل هذا «الهيركات» إلى حدّ الـ ٧٥٪ من خلال سحب الوديعة بسعر صرف ٣٩٠٠ ل.ل. للدولار الأميركيّ الواحد، ومن ثمّ يلجأ المودِع إلى شراء الدولار من السوق السوداء بسعر صرف يُعادل ١٥٠٠ ل.ل (قابل للازدياد في كلّ لحظة).

تطغى اليوم مشاعر القلق والخوف لدى المودع اللبنانيّ حول المصارف التي تقوم بتنظيف لوائحها الماليّة بتقليص ديونها، أي خفض أموال المودعين جرّاء شرائهم العقارات من حساباتهم «اللولاريّة». إنّ هذا الخوف الذي زُرِع في نفوس اللبنانيّين، وبعد الانتهاء من صداع المودعين الصغار بـ«فتات ال ٤٠٠ دولار»، سيضع المودعين الكبار أمام خيارات ضيّقة ومؤلمة تفرضها عليهم لاحقًا السلطة أو صندوق النقد الدوليّ، سواء أكان بتمديد فترة استرجاع الودائع إلى 15 سنة أم الحصول عليها فورًا بعد «هيركات انتحاريّ» يصل إلى ٧٥٪. وكأنّ الخطّة «الإنقاذيّة» اللبنانيّة تستهدف العامل الديموغرافيّ من دون الاهتمام بالعوامل الاقتصاديّة التقليديّة. أي تسديد الكتلة الماليّة الصغيرة نسبيًّا للمودعين الصغار، التي تنعكس على شريحة واسعة من اللبنانيّين.

في هذه البانوراما السريعة التي عرضناها، نجد السلطة أشبه بالتلميذ الذي يعتمد على زملائه المجاورين لمساعدته في الامتحان. إذ إنّها اجتهدت في نقل ما نهجته اليونان وقبرص من دون تفكير أو تأقلم مع ما يُطلب منها خصوصًا. فالسلطة نقلت فكرة الكابيتال كونترول، ولكنّها طبّقتها باستنسابيّة وبلا تدقيق جنائيّ، وحَضّت الرأي العالميّ من دون أن تتعاون معه وفق شروطه عن طريق البنك الدوليّ، وادّعَت مصلحة الشعب والأخذ برأيه لكنّها قَمعته عندما انتفضَ وأفقرته، وحاولت أن تضبط سعر الصرف لكنّنا أمام أسعار صرف متفاوتة تصل إلى ١٠ أضعاف بين السعر الرسميّ وسعر السوق، وسارعت في ردّ فعلها لكنّها ظلّت على مستوى الخطاب الشعبويّ الفارغ من دون خطط إيجابيّة/ إنقاذيّة/ دوليّة حتى اللحظة.

كذلك، نَسي هذا التلميذ المجتهد أن لا شريك له في الليرة اللبنانيّة يهمّ لمساندته في إنقاذه كما حصل مع دول اليورو، وأنّ ثمّة عوامل مشتركة حقيقيّة لم يعرف أن يعتمد عليها في السياحة المتوسطيّة، وجذب الاستثمارات الخارجيّة لإعادة النموّ. أتكون خطة السلطة بالفعل تسليم البلد إلى صندوق النقد الدوليّ لكن في حالته «الانهياريّة» بعد أن تمتصّ منه آخر دولار ممكن؟