عذرًا... هل انهيارنا الاقتصاديّ مفاجئ؟

نُشر هذا المقال في جريدة الجمهوريّة، في ٨-٥-٢٠٢١. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

تومض لوحة القيادة لسفينة اقتصادنا وتتزيّن جميع مؤشّراتها باللون الأحمر مُنذرةً بالنهاية الوشيكة. لبنان، ذلك المركب الفينيقيّ الرشيق الّذي يشقّ عباب المتوسّط نحو العالم، أصبح اليوم أشبه بتيتانيك يتصدّع من كل الجهات، قبل غرقه نحو قعر المحيط في رحلة من دون عودة. لكن، كيف أوصلنا قبطاننا إلى هذه الكارثة الاقتصاديّة؟ وكيف يتفاجأ من عَزْم الانهيار وأولى مهماته توجيه الأشرعة إلى حيث نصل إلى برّ الأمان؟

لنُعِد قراءة الماضي في نظرة بانوراميّة خاطفة على المشهد اللبنانيّ، علّنا نجد طريقة للنجاة قبل الاستسلام غرقًا.

١. الفصل الأوّل: في كانون الأوّل ١٩٩٧، قرّر مصرف لبنان ربط مؤشِّر العملة الوطنيّة بالدولار الأميركيّ. فألقت مرساتها عند عمق ١٥٠٠ ل.ل مقابل الدولار الواحد. حافظت هذه السياسة على استقرارها مدّة سنوات بفضل معدّلات الفائدة المتزايدة، تُضاف إليها دعائم المساعدات والديون الدوليّة. كذلك، شَحْن المغترِب اللبنانيّ في هذا القارب نحو ٧ مليارات دولار أميركيّ سنويًّا (ما يُعادل تقريبًا ١٣٪ من إجمالي الناتج المحلّيّ). وكان عامل الثقة بالعملة الوطنيّة العنصر الأساس حينها.

٢. الفصل الثاني: بدأ المركب بالتأرجح مع دخول «حزب الله» الهادر على متن السياسة اللبنانيّة من بوابتها العريضة. وبمهارة وخفّة، وقّع اتّفاقًا مع «التيّار الوطنيّ الحرّ» لكي يضمن طوق نجاة مسيحيّ وازن كلّما تخبّط المركب نتيجة الأمواج المعاكسة. أخذ المركب بعدها منعطفًا حاسمًا لمصلحة الحزب الشيعيّ الموالي لإيران في لُجّة الانتخابات الرئاسيّة الماضية. فمنذ أيّار ٢٠١٤ حتّى تشرين الأوّل ٢٠١٦، رفض النوّاب المنضمون تحت راية 8 آذار الحضور إلى البرلمان لانتخاب قبطانٍ جديد يقود مركبًا يتنوّع فيه ركّابه سياسيًّا وطائفيًّا. وقتها، عرف لبنان فراغًا رئاسيًّا للمرّة الاولى في سجلّاته التاريخيّة، ودامت الحالة الضبابيّة مدّة سنتين.

بالطبع، تغلغل الخوف وعدم الثقة في قلوب الركّاب، ونتيجةً لذلك، عانى الاقتصاد اللبنانيّ من ثقل القلق المتناميّ الّذي أخذ يُغرقه شيئًا فشيئًا، وإن كان في مراحله الأولى غير منظورٍ، كجبل جليد لا يُرى منه سوى قمّته. أخيرًا، انتصر «حزب الله»، وتبوّأ ميشال عون سُدّة القيادة.

٣. الفصل الثالث: بفضل قيادة قويّة، كانت بوصلتها «محاربة الفساد»... رأينا عفن الفساد يصل إلى ذروته واستشرى في هيكل السفينة. وإذ برؤوس الأموال وكذلك الأدمغة تُهاجر المركب بمجازفة حقيقيّة، علّها تكون أخفّ وطأة وأقلّ صخبًا من ساعة الغرق يومًا ما. تشبّث آخرون يشاهدون أمواج الاكتئاب تتعالى عليهم شيئًا فشيئًا، في ظلّ استماعهم لمعزوفة الإصلاح والتغيير، وخُدعوا بسلسلة الرتب والرواتب ظنًّا منهم أنّها مراوغة حكيمة تصبّ لمصلحتهم.

لم يكن الارتطام بجبل الجليد مفاجئًا عند الّذين حذّروا مرارًا من خطورته، فتعالى صراخهم مقابل تصادم طاقم السفينة مع اقتراب الاصطدام الّذي أمسى محتّمًا. طفح الكيل عند إعلان الضرائب على خدمة «الواتساب» في تشرين الأوّل ٢٠١٩. عشيّتها، انبثق غضب ثوريّ في بيروت، وطرابلس، وصور ومناطق أُخرى، وكان تعبيرًا عن إحباطٍ مكبوت منذ وقتٍ طويل.

انعكس ردّ فعل الطاقم المصرفيّ على هذا الحدث بإغلاقٍ فوريٍّ، تلاه إعادة فتح خجول لكوّاتها، أشبه بحجزٍ على الودائع مُرتجل.... وهكذا وجدت المصارف نفسها في حالة إفلاس تقنيّ، وكان خلاصها الوحيد فرض قيود صارمة على عمليّات سحب الدولار بموافقة ضمنيّة من مصرف لبنان المركزيّ.

شهد بلد الأرز «سويسرا الشرق سابقًا» نفسه أمام تسونامي أحداث كارثيّة متتابعة، لم تساعده في استعادة أنفاسه، فانخفض احتياطي الدولار الأميركيّ لدى مصرف لبنان، ثم تبعه سقوط حرّ لليرة اللبنانيّة، بعدها تبخّرت مدّخرات المودعين، وانهارت القوّة الشرائيّة عند المواطنين في دوّامة الجشع، وظهر «قرش» الفقر من حيث لا ندري يترصّد فريسته المنهكة.

نتج من هذا كلّه تضخّم هائل، ولتكون الكارثة أفظع، رافق هذا التسونامي الاقتصاديّ، إعصار الكوڤيد الوبائيّ، وانفجار مرفأ بيروت الإجراميّ. لقد عصف انفجار ٤ آب ٢٠٢٠ بكلّ شيء قابله، فاجعة شوّهت جمال بيروت من دون أن نعلم حتّى اللحظة «من، وكيف، ولماذا»، ووجدنا أنفسنا بلدًا من دون ميناء سلام. في حين لم تكتفِ الجائحة بقتل العشرات من أعزّائنا، بل شكّلت حماية غير متوقّعة للطبقة السياسيّة تحت مسمّى الحَجر ومنع التجوّل، لتضمن ابتعاد غرفة القيادة عن أيّ محاولة لاقتحامها.

لقد فقد الفينيقيّ السابق تركيزه وهو مرتبك أمام مشهد غرق مركبه... إنّه يصل إلى القعر... قعر الفقر، ويبقى أمله الوحيد في تشكيل حكومة جديدة... لكن، أين ذهبت مطالب ١٧ تشرين وما بعده؟ للأسف، في غياهب النسيان...

من الجليّ لمن يراقب على قوارب النجاة بعيدًا، أنّ اللبنانيّين يكتفون الآن بمطالب الأمس نفسها: الثلث المُعطِّل، وحجم التمثيل في الحكومة، وآليّة تسمية الوزراء، والحقائب السياديّة، حكومة مستقلّة زائفة، تمثيل الغالبية المذهبيّة... والأسوأ من ذلك كلّه، أنّ همّه الأسمى بات تأمين لقمة العيش لعائلته، وسداد الفواتير المستحقّة التي تُلقي بوزرها على نهاية الشهر، ونهاية الأسبوع، ونهاية النهار... إنّه يهتمّ باحتياجاته الأوّليّة عوضًا عن اهتمامه بغنى بلده النفطيّ السياحيّ الزراعيّ المناخيّ المصرفيّ الطبّي العلميّ الشبابيّ الإبداعيّ... ويا حسرتاه!!! هذا الغنى سيعود لتتقاسمه أقطاب حكومةٍ يأمل أن تتشكّل في يوم من الأيّام... يا لها من مفارقة...

لا نريد شعبًا أشبه بـِ«جاك» في فيلم تيتانيك، يضحّي من دون تعقّل، يستشهد فقط لأنّه فقير، يرضخ تحت مسمّى التضحية والحبّ بأن يتخلّى عن حقّه في الحياة، ليكون مجرّد لحظة عابرة في ذكريات الأغنياء. فيا ليتنا لا نتفاجأ في كلّ مرّة أمام دموع الأغنياء الكاذبة، ونتولّى زمام الأمور يومًا، ونتحكّم بمصيرنا ولا نكون تحت رحمة قيادة تتفاجأ كلّ مرّة أثر تصرّفاتها الرعناء.