التدقيق في فعاليّة التدقيق الجنائيّ

نُشر هذا المقال في جريدة الجمهوريّة، في ٢٨-٤-٢٠٢١. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

مُجبرين كنّا أم أبطالًا... لا بدّ لنا من قبول أي لقاح متوافر في هذه الظروف إن رغبنا في الوقاية من القدر المُحتّم من دون أن يكون لدينا ترف اختيار الأفضل. هذه هي حالتنا في لبنان، تتراكم الثروات لدى المسؤولين في الحكومة اللبنانيّة مع تراكم فسادهم. إذ نشتمّ رائحة دولاراتهم المكدّسة ممتزجة برائحة عفن فسادهم. لكن، هل تعتقد أنّ التدقيق الجنائيّ يمكن أن يكون لقاحًا مضادًّا؟ أم علاجًا يُجبر على تعاطيه لتطوّر طفرات الحكومة الفاسدة؟ وقبل استبعاد العلاج المقترح، سنحاول أوّلًا تحليل طبيعته، وكشف ما يمكن أن يقوم به في هذا الخصوص.

إنّ التدقيق الجنائيّ هو عمليّة فحص سجلّات الحكومة الماليّة وكيانها لاستخراج الأدلّة الممكن استخدامها في المحاكم والإجراءات القانونيّة. على سبيل المثال، لنفترض أنّ الشركة (أ) قد عقدت صفقة مع الشركة (ب) لتورِد إليها بضائع معيّنة بتوصيّة من مديرها الماليّ. لكنّ الشركة (ب) لم يكن مصرّح لها ممارسة الأعمال التجاريّة في حينها، لتعليق ترخيصها بسبب عدم التزامها بسداد بعض الرسوم الضرائبيّة، علمًا أنّ المدير الماليّ كان على درايةٍ بهذا الحظر عندما أوصى بهذه الشركة، وأكمل إجراءات التعاقد معها. في هذه الحالة، يمكن للتدقيق الجنائيّ أن يتوصّل إلى كشف حالة الاحتيال هذه. ونحن بدورنا، نستطيع أن نطبّق حالة هذه الشركتين على أيّ كيانٍ حكوميّ بحسب الرسم البيانيّ الموضّح. (الرسم ١).

بناءً على السيناريو السابق الذي يمكن مطابقته إلى حدٍّ بعيد على سياق الحكومة اللبنانيّة، هل تعتقد أنّ التدقيق الجنائيّ يمكن أن يقدّم أيّ نتائج إذا طُبّق فقط على عمليّات مصرف لبنان المركزيّ؟ فقد تكون الشركتين (أ) و(ب) وزارتين أو سلطتين مختلفتين، في حين يمكن أن يكون المدير الماليّ أحد المسؤولين في أيّ سلطةٍ حكوميّة. عادةً ما يُجرى التدقيق الجنائيّ لأسباب عديدة، نذكر منها:

أ - الفساد:

يفتّش المدقّق في أثناء التحقيق في حالات الاحتيال عن الآتي:

١ - تضارب المصالح: عندما يستغلّ المتحايل نفوذه لمصالح شخصيّة تضرّ بالكيان العامل فيه. على سبيل المثال، إذا وافق مسؤولٌ ما على سداد نفقات غير دقيقة لصالح أحد الموظّفين، أو أيّ صاحب مصلحة يرتبط معه بعلاقة شخصيّة وطيدة أو عائليّة.

٢ - الرشوة: كما هو جليّ، سيبحث المدقّق عن أيّ مبالغ ماليّة أو ماديّة يتمّ دفعها لإتمام أيّ عمليّة، أو التأثير على أيّ حالة ما تصبّ في مصلحة الراشي. مثال، يرشي مقاول موظّف حكوميّ كي يسرّب إليه بعض المعلومات المهمّة التي من شأنها أن تساعده في تقديم عرض أفضل في مناقصةٍ ما.

٣ - الابتزاز: إذا طلب مدير أو موظّف حكوميّ مبلغًا معيّنًا من أجل أن يمنح عقدًا ما لأحد المورِّدين، يمكن أن يُعتبر هذا التصرّف تصرّفًا ابتزازيًا.

ب - اختلاس الأصول:

يُعدّ اختلاس الأصول أحد أوسع أشكال الاحتيال شيوعًا وانتشارًا. إنّ اختلاس الأموال من الخزينة، أو تحرير الفواتير المزوّرة، أو سداد دفعات إلى مورِّدين أو موظّفين وهميّين، أو سوء استخدام الأصول، أو سرقة المستودعات، ما هي إلّا مجرّد أمثلة من قائمة تطول عن اختلاس الأصول. ونزيد عليها، شراء أصول مسجّلة وإدراجها ضمن مصاريف من دون استخدام سجلّات الأصول. فمع مرور الوقت، يمكن ضياع إمكانيّة تعقّب وجود هذه الأصول في المستودعات لصالح استخدامها الشخصيّ.

ج - الاحتيال في البيانات الماليّة:

تلجأ الحكومات وكياناتها إلى هذا النوع من الاحتيال لتُظهر الأداء الماليّ الوطنيّ بصورةٍ أفضل ممّا هو عليه فعليًّا. قد يكون الهدف من تقديم أرقام مزوّرة تحسين السيولة، وضمان تلقّي كبار المسؤولين المكافآت، والتعامل مع ضغوطات السوق الدوليّة الماليّة، وأخيرًا وليس آخرًا خلق ثبات زائف ليتماشى مع استراتيجيّات ماليّة رديئة وغير أخلاقيّة تشكّل منصّة أساسيّة لدى الأحزاب السياسيّة لإسكات أنصارهم وتهدئتهم. مثال عامّ على ذلك، تطبيق تحقيق على كيفيّة تسجيل مصرف لبنان خسائره، وشطبه بعض العمليّات الماليّة لتلميع صورة أدائه وتحسينها في السنين المنصرمة.

على هذا النحو، وختامًا لِما أوردناه، يُطلب من المدقّق الجنائيّ فهمًا ودرايةً لأنواع الاحتيالات الممكنة التي تمّ اعتمادها وتطبيقها. على الأدلّة المجموعة أن تكون دقيقة إلى حدٍّ كافٍ لتحدّد هويّة المحتال أمام المحكمة، وتكشف تفاصيل مخطَّط الاحتيال، وتوثّق الخسارة الماليّة الحاصلة بالأرقام، والجهات المشاركة في عمليّة الاحتيال.

كما يُطلب تقرير مفصّل لعرضه على الجهة المستدعية يُشرح فيه عمليّة الاحتيال. وعلى هذا التقرير أن يحتوي نتائج التحقيق، وملخّصًا للأدلّة، وشرحًا لكيفيّة ارتكاب ذلك الاحتيال. أيضًا، يُطلب من المدقّق الجنائيّ المثول أمام المحكمة كي يشرح الأدلّة المجموعة، وكيفيّة تحديده المشتبه به.

تلخيصًا لكلّ ما ذُكر، إنّ عمليّة التدقيق الجنائيّ هي تعهّد مفصّل يتطلّب خبيرًا في الاطار القانوني، لا في المحاسبة وإجراءات المراجعات وحسب. على المدقّق الجنائيّ أن يكون مطّلعًا على كافّة أنواع الاحتيالات الممكن تنفيذها، وكيفيّة جمع الأدلّة. ولكي يكون التدقيق الجنائيّ فعّالًا «ناجعًا»، عليه ألّا يحصر نطاقه بأحد كيانات الدولة كمصرف لبنان وحسب، بل عليه أن يشمل جميع الشركاء الحكوميّين، والمساهمين في صياغة الحصيلة الماليّة النهائيّة الجاري التدقيق فيها.

كذلك، يتطلّب التدقيق الجنائي نظامًا قضائيًّا متينًا ومستقلًّا. لأنّه من دون هذا النظام المتين لا يمكن تقديم المدانين إلى المحكمة لمقاضاتهم. فعلى سبيل المثال، وبالعودة إلى سياق التدقيق الجنائيّ الحاليّ في لبنان ونطاقه، من الجليّ أنّ صلاحيّات البعثة الاستقصائيّة لا تشتمل على أيّ سلطات حكوميّة أُخرى غير مصرف لبنان، علمًا أنّ القضاء اللبنانيّ معلول بعدم الاستقلاليّة ومشوبٌ بفيروسات الفساد وميكروبات الخوف والتردّد.

وعلى رغم طرح بعض المنتقمين السياسيّين ورقة التدقيق الجنائيّ ودعمها بشراسة، فالقناعة الراسخة أنّ لا أحد من السياسيّين اللبنانيّين ومجموعاتهم الحزبيّة يدعم أيّ شكلٍ من أشكال التدقيق الجنائيّ الحقيقيّ. بالعكس، فهُم يعتقدون بأنّ هذه المهمّة لا يمكن تطبيقها، لكنّهم يكتفون بالتصفيق لها وتشجيعها ظاهريًّا لخداع الشعب اللبنانيّ وانتزاع مستقبله منه، وبالطبع بعض الأصوات الانتخابيّة المريضة.

وبالعودة إلى سؤالنا الرئيسيّ عن طبيعة التدقيق الجنائيّ العلاجيّة، يمكننا أن نؤكّد أنّه سواء أكانت دواءً أم لقاحًا، فهي ما زالت قيد التجربة السريريّة في مراحلها البدائيّة.