عصفورا النفايات والكهرباء وحجر الطاقة البديلة

نُشر هذا المقال في جريدة الجمهوريّة، في ٢-٩-٢٠٢١. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

من أزمة الكهرباء، الوقود، والدواء، والأطعمة المفقودة، إلى أزمة النفايات الّتي ستستفحل قريبًا، تتوالى المصائب علينا وكأنّها أسراب غربان سوداء تحوم فوق جثّة الوطن اللبنانيّ. هكذا أصبح حالنا كمكبٍّ لهموم الدنيا. فاللبنانيّ ينظر إلى النفايات بوجهٍ سلبيّ فقط، لا بل ينعت بها كلّ ما هو سيّئ وغير منتج «شو هل... الزبالة!!!»، ويمكنكم أن تستبدلوا النقاط بأيّ مفردة في المعجم.

بين جميع الأزمات الّتي تطمرنا، تبقى أزمة النفايات ذات رائحة مميّزة، إذ تُثير الشارع أكثر من غيرها. فكما نذكر جميعًا ظهور الحراك المدنيّ «طلعت ريحتكم» في إثر أزمة النفايات وإغلاق مطمر الناعمة الرئيسيّ العام ٢٠١٥. فمسألة النفايات كانت قادرة على تحريك الشارع اللبنانيّ في اعتبارها أمرًا لا يمكن احتماله، وهو اليوم يأبى حتّى اللحظة أن يعاود التجربة لاعتباراتٍ عدّة.

وكما جرت العادة في لبناننا، ثمّة مشكلات ولا توجد علاجات، هنالك نفايات ولا حلول لها حتّى اللحظة. فلا يُخفى على أحد، أنّ أزمة النفايات ليست وليدة اليوم، ولا تخصّ لبنان وحده، إذ أنّها ظاهرة عالميّة أخذت تنتشر بمقدار كبير باتّساع الأنشطة البشريّة مع بداية الثورة الصناعيّة في القرن التاسع عشر، وظهور المجتمع الاستهلاكيّ في القرن العشرين.

تكمن بداية الحلّ في تغيير منظورنا إلى مسألة النفايات، إذ أنّ سلبيّتها ليست حتميّة بالضرورة، فيمكن أن يُعاد تصنيع بعضها، وتحويل غيرها، وأكثر من ذلك، ثمّة فرص لتحويل جزء منها إلى أحد أهمّ مصادر الطاقة البديلة، وما أحوجنا إلى الطاقة البديلة، وما أغزر زبالتنا! فمنطق الأزمات يمكن أن يستفيد من المنطق الرياضيّ: سالب مع سالب يساوي موجب، ليُعطي: أزمة (نفايات) + أزمة (كهرباء) = حلّ (الطاقة البديلة(.

فاليوم، تشكّل النفايات المنزليّة مصدرًا مهمًا للمواد الخامّ الّتي تقارب قيمتها الصفر، إذ يمكن إعادة تدويرها، أو استعادتها في أشكال طاقة عن طريق الحرق أو ما يُسمّى عمليّة تخمير الميثان («المَيْثَنة»). وهنا أيضًا نجد أنّ مصطلح «الحرق» يأخذ معنًى سلبيًّا في المجتمع المحلّيّ، وهذا بديهيّ لأنّنا نشهد عمليّة حرق عشوائيّة وغير مدروسة... أمّا نحن فنقصد هنا: الحرق ضمن معامل متخصّصة معدّة للاستفادة من عمليّة التخمّر.

فما هي المَيثَنة؟ إنّها تفاعل كيميائيّ تتفكّك فيه المواد العضويّة القابلة للتحلّل بواسطة البكتيريا الّتي تعمل في انعدام الهواء، لذلك يُطلق على هذه العمليّة اسم «الهضم اللاهوائيّ». بعدها، ينتج من هذا التحلّل «الغاز الحيويّ» الّذي يتكوّن بوجهٍ أساسيّ من الميثان بتحوّل أوّل وثاني أوكسيد الكربون إلى الميثان عن طريق عمليّة الهدرجة، وهذا الغاز له خصائص الغاز «الطبيعيّ» نفسها، وبالتالي يمكن تحويله حرارة أو كهرباء أو وقودًا للمركبات.

لنجاح هذه العمليّة، يتوجّب أن يكون العمل منظّمًا ومتكاملًا يعتمد على التنسيق بين ثلاثة محاور أساسيّة: الشركات بإيجاد الحلول المبدعة، والوعي المسؤول عند الأفراد، والقوانين الفاعلة لدى الدولة. ويتّسع هذا التنسيق ليشمل المستوى الدوليّ عندما توضع القوانين الموحّدة للتخفيف من الانبعاثات الكربونيّة، والاحتباس الحراريّ. بالطبع، نجد أنّ قاعدة هذا الهرم في الدول الّتي تُطبّق هذه التشريعات هي المواطن الّذي يتحلّى بسلوكيّات بيئيّة مسؤولة، إذ يؤدّي دورًا أساسيًّا في قطاع إعادة التدوير بما يقوم به من جمعٍ، وفرزٍ، خصوصًا لمواد تغليف المنتجات وتعبئتها.

بالعودة إلى المشهد المحلّيّ، نجد أنّه منذ أزمة النفايات في العام ٢٠١٥، ما زال المشهد على حاله، إذ أنّ القوانين المُشرّعة بقيت حبرًا على ورق لا تجد من يُطبّقها، وغياب الاستراتيجيّات المتكاملة لإدارة النفايات المنزليّة، ودراسات الآثار البيئيّة كانت أمورًا واجبة للتأكّد من أنّ البُنى التحتيّة لعمليّة معالجة النفايات تلبّي المعايير البيئيّة المعمول بها عالميًّا.

وفي العام ٢٠١٩، أقرّ مجلّس النوّاب اللبنانيّ التزامه بالشرعة الدوليّة بالقانون الرقم ١١٥، وذلك بعد انتظار دام ثلاث سنوات على اتّفاقيّة باريس الملحقة باتّفاقيّة الأمم المتّحدة في شأن تغيّر المناخ الموقّعة في نيويورك عام ٢٠١٦، إذ أعرب عن استعداده العمل على ضمان تخفيف انبعاثات الغازات الدفينة، والتكيّف مع التغيّر المناخيّ، رغبةً «لا طمعًا» بالاستفادة من المنح الماليّة للدول الناميّة الّتي وُعدت بها لمساعدتها في تحقيق هذه الأهداف.

عمليًّا، يُنتج لبنان اليوم ما معدّله ٦٦٥٥ طنًّا من النفايات الصلبة يوميًّا، كما يتمّ إعادة تدوير ١٥٪ منها فقط، أو تحويلها سمادًا عضويًّا بانخفاض ملحوظ عمّا كانت عليه معدّلات العام ٢٠١٣ أي بمقدار ٢٣٪، وفقًا لدراسة أجرتها وزارة البيئة. لذلك، وبعمليّة حسابيّة بسيطة، ينتهي المطاف بنحو ٨٥٪ من النفايات في المكبّات الّتي «تختنق» بازدياد كميّات النفاية من دون معالجتها، وبذلك «تخنق» اللبنانيّين بانبعاثاتها المؤذية وذات الآثار المسرطنة.

إضافة إلى ما ذُكر، نجد أنّ طنّ النفايات يُكلِّف ما معدّله ١٥٤,٥ دولارًا أميركيّ، وهو مبلغ يقارب الـ٢٢ ضعفًا لتكلفته في الجزائر على سبيل المثال (٧,٢٢ دولارات) فقط، وسبعة أضعاف تكلفته في سوريا (٢٢ دولارًا)، ويمكن تفسير ارتفاع هذه التكلفة إلى أصل كلّ معضلة في لبنان: عجز الدولة واحتكار القطاعات. علمًا أنّ بعض البلديّات المحلّيّة في لبنان عملت في شكلٍ مستقلّ عن الدولة على تجميع النفايات، وقد ساهمت في تخفيض التكلفة بمعدّلات ملحوظة، تكشف أنّ النفايات هي في حدّ ذاتها ثروة، لا لجيوب المحتكرين، بل كونها مصدرًا للطاقة.

لذلك، يبقى خيار الحرق الحلّ «المعجزة» الّذي تقترحه منذ سنوات عدة جميع الحكومات الموكلة إدارة الدولة، لكن من دون أي دراسة أو تخطيط أو تفعيل. إذ يستشهد مؤيّدو هذا الخيار بأمثلة من المحارق «النظيفة» كتلك الموجودة في النمسا، وفرنسا، وألمانيا، لإقناع الرأيّ العامّ كون هذا الحلّ فعّالًا وغير ملوِّث، ومن شأنه أن يسمح بتوليد الكهرباء (وفيه خلاص كلّ لبنانيّ). لكن يغفل عنهم، سهوًا أو عمدًا، أنّ لكلّ منطقة في العالم تركيبة «تقريبيّة» لقمامتها. على سبيل المثال تختلف تركيبة القمامة اللبنانيّة تمامًا عن نظيرتها الموجودة في البلدان الصناعيّة الأوروبيّة. وعلى رغم أنّ استخدامات الغاز الحيويّ هي نفسها استخدامات الغاز الطبيعيّ، غير أنّ الأوّل يوفّر بديلًا بيئيًّا لأنّه أقل تلويثًا من المشتقّات النفطيّة التقليديّة، كما أنّ انبعاثاته من ثاني أوكسيد الكربون لا تزيد من عوامل الاحتباس الحراريّ.

في الواقع، إذا كان من الممكن إعادة تدوير أو تحويل ٣٠٪ فقط من النفايات الأوروبيّة إلى سمادٍ طبيعيّ، فإنّ هذه الحصّة ترتفع إلى نسبة ٦٥٪ في لبنان نتيجة نسبة المواد العضويّة الكبيرة فيها. لذلك، نحن لسنا بحاجة إلى حرق غالبيّة نفاياتنا، فهذا أمرٌ غير مُجدٍ (تحتاج النفايات العضويّة إلى كمّيّة وقود أكبر لحرقها مع ارتفاع نسبة المياه في تركيبتها، وبالتالي ارتفاع تكلفة العمليّة ككلّ)، إذ يمكننا أن نعيد تدويرها في شكل مثاليّ وفق «معايير القمامة اللبنانيّة».

إنّ مسألة استعادة النفايات أو تكريرها تتغلّب على معضلة محدوديّة موارد الغاز الطبيعيّ إلى حين استخراجه على المدى الطويل. كما تساعدنا في تبنّي نهج إعادة تدوير حقيقيّ للنفايات، فلا تصبح عندها «الزبالة» مصدرًا حصريًّا للتلوّث، بل مصدرًا جديدًا، وخصوصًا للطاقة الّتي يمكن استغلالها في إمداد شبكات التدفئة المباشرة (الأمر غير الوارد في لبنان حاليًّا)، أو عن طريق تحويلها إلى كهرباء وهو ذو منفعة وأهمّيّة للبلد اليوم.

في اختصار، توفّر عمليّة حرق ٥ إلى ٧ أطنان من النفايات كميّة من الطاقة تعادل احتراق طنّ واحد من الفيول. هكذا نكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد، أي أن نتخلّص من أزمة النفايات وأزمة انقطاع التيّار الكهربائيّ وشحّ الموارد النفطيّة، بابتكار حلول طاقة البديلة.

فمثلًا، تنتج محطّة توليد الكهرباء في بنكون بألمانيا المؤلّفة من ٤٠ وحدة ما يقارب ١٦٠ مليون كيلوواط/ ساعة، ما يلبّي حاجة ٤٠ ألف أسرة سنويًّا من الطاقة. أمّا في الدنمارك، فتحوّل ٣٠ وحدة ما يعادل ٣,٥ ملايين طن من النفايات لإنتاج ٥٪ من احتياجات الكهرباء المنزليّة، و٢٠٪ من الحرارة. في اختصار، يمكن لوحدة الهضم اللاهوائيّ التّي تعالج ١٥٠٠٠ طن من النفايات في السنة أن تغطّي حاجة ١٣٠٠ منزل من الكهرباء، و٢٠٠٠ منزل من الماء الساخن. كما يُعدّ تطوير حلول إنتاج الطاقة الخضراء والمتجدّدة عاملًا رئيسيًّا في تحويل الطاقة، فقد زادت كمّيّة الطاقة المتجدّدة المنتجة في الاتّحاد الأوروبيّ بنسبة ٦٦,٦٪ بين عامي ٢٠٠٦ و٢٠١٦.

أخيرًا، ثمّة لكلّ وسيلة جوانب سلبيّة، فمن مساوئ المحارق انبعاثات الرماد المتطاير الصلب، وهو بقايا ذات آثار سُمّيّة شديدة، فإذا لم تُعالج في الشكل المناسب عبر عمليّات الصيانة والمراقبة وضمان استمراريّتهما، تشكّل خطرًا كبيرًا على الصحّة العامّة، لعدم وجود أمكنة مخصّصة لتخزين هذه البقايا بالطرق السليمة. من ناحية أُخرى، يجب تقليل مكبّات النفايات إلى الحدّ الأدنى، إذ انّ للأمر تداعيات كارثيّة على البيئة وصحّة السكّان المحلّيّين لا تحمد عواقبها، ويجب تطبيق المبادئ الأساسيّة الأربعة الآتية: تقليل، إعادة استخدام، إعادة تدوير، استعادة الطاقة، من أدنى الهرم الاجتماعيّ إلى رأسه.

كجزء من الحلّ، يجب أن تقرّ الحكومة برنامجًا لا مركزيًّا في إدارة النفايات، في إطار استراتيجيّة وطنيّة واضحة ومضبوطة، بعيدًا من الاحتكارات والتقسيمات الطائفيّة الّتي طاولت الزبالة نفسها. بالطبع، لا يعني هذا أن تتولّى بلديّات لبنان الـ ١٣٠٠ جميعًا مسؤوليّة التخلّص من النفايات الصلبة، فبعضها صغيرة ولا تمتلك مقوّمات هذه المهمّة، لهذا يجب عليها أن تنسّق في ما بينها لكي تستفيد من «وفورات الحجم»، أي تخفيض حجم التكلفة بازدياد حجم الإنتاج، إذ أنّها تقلّل من مصاريفها عندما تخفّف من مسافات التنقّل، وتلجأ إلى بيع النفايات المحوّلة سمادًا.

كما يمكن التفكير في عمليّات الفرز «الذكيّة»، خصوصًا أنّنا بتنا نشهد وعيًا متناميًّا بين اللبنانيّين لمسألة إعادة التدوير، وكذلك دخول هذه المصطلحات والسلوكيّات إلى المراكز وبعض الهيئات الحكوميّة. حينها يمكن إضافة الزبالة لا إلى مشكلات لبنان، بل إلى ثرواته المستدامة الّتي تُضاف إلى الشمس والرياح لتوليد الطاقة النظيفة.

في الختام، نجد أنّ القمامة ليست عبئًا يجب التخلّص منه بمقدار ما هي مورد يجب إعادة استثماره في الاقتصاد الوطنيّ. فمن الأهمّيّة بمكان أن نركّز على أنّ الأزمتين اللتين رغبنا في إيجاد حلٍّ لهما، قد ولّدتا فرصًا إيجابيّة أُخرى. فحجر الطاقة البديلة الصائب لم يحلّ أزمة النفايات والكهرباء وحسب، بل أصاب عصافير أُخرى، منها: صحّة الإنسان، وخفضّ استهلاك للمشتقّات النفطيّة، تحديث بيئيّ على غرار البلدان المتطوّرة بحسب معايير عالميّة، انتاج طاقة خضراء تتناسب مع لون وطننا وأرزه الشامخ.