في ليلة ثورة الزعماء... يُفتقد القائد

نُشر هذا المقال في جريدة الجمهوريّة، في ١٩-٦-٢٠٢١. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

لِمَ يثور الشعب، وما الشرارة الّتي تحضّه على النزول إلى الشارع وينتفض، ويتحمّل مقاومة السلطة؟ هل هو الجوع؟ أم رغبته في التغيير؟ أم تحقيق ذاته وضمان مستقبل أبنائه؟ عندما قام الشعب الفرنسيّ في ثورته، كانت ماري أنطوانيت مغيّبة عن واقع جوعه، وفي الثورة البلشفيّة ثار الشعب لرغبة في تغيير نظامه الاقتصاديّ والصناعيّ. أمّا اللبنانيّ فطفح كيله لضريبة زهيدة، لكننا الآن نتساءل، أين الشعب الثائر من غلاء المعيشة، وانقطاع حليب الأطفال، وندرة البنزين الضروريّ لتنقّل الفقير والغني... ومَن القادر على إعادة إحيائه؟

ألا يستطيع المواطن الجائع أن يثور حقًّا؟ إنّ هذه الحالة تجد تبريرها من فكرة أنّ الإنسان عندما يجوع يركّز طاقاته ووظائفه الحيويّة جميعها ليسدّ ما يفتقده فقط، هكذا تطوّر الإنسان البدائيّ، وما زال هذا الموروث الأنتروبولوجيّ مطبوعًا فينا من دون استثناء. فالطبقة الحاكمة لم تبتكر أسلوبًا جديدًا لضبط الشارع، بل هي أيضًا اعتمدت على الموروث، لا الأنتروبولوجيّ بل الديكتاتوريّ، فنراها في لبنان قد ورثت طباع الطغاة الّذين لطالما عيّرناهم بعدم إنسانيّتهم في مناهجنا التربويّة الّتي تصدّق وزاراتهم عليها.

هكذا يتبيّن أنّ الحنكة السياسيّة وما يجب أن يتميّز به القادة من تحليلٍ وطرح للحلول، ما هي عند سياسيّينا سوى فرط في الاحتيال وشرّ يُطبّق بأقصى درجاته، لأنّه يستهدف وجود الإنسان نفسه، والحطّ من كرامته بوجهٍ يرفضه أيّ دين، أو عرف، أو نظام اجتماعيّ. وعلى نقيض جميع الحكومات الّتي تجتهد في بنيان مجتمعاتها ودولها، إجتهدت حكوماتنا الفاضلة في هدم مجتمعنا وإجهاض مشروع الدولة اللبنانيّة خصوصًا في ذكرى مئويّتها. إذ تمّ ذلك بطريقة غير مباشرة، فاستخدمت السلطة الشعب الجائع أداةً للوصول إلى هذه الغاية، لأنّ مبتغى الطغاة أن يجوع المواطن فيحوّل ثورته من أجل التغيير، إلى عبثيّة السرقة والتكسير.

إنّ منهجيّة التجويع لَأسلوبٌ مَقيت تعتمده جلّ الديكتاتوريّات ولا تعتبره عارًا لأنّها لا تدّعي الحرّيّة والتحرّر. لكنّ حكوماتنا الفاضلة لم تستحِ بعد لأنّها تطبّقه من جهة، وتقتل بدمٍ بارد الشعب الجائع، وها هي تُحكم قبضتها على المسكين، وتُهين كرامته عندما «تربّحه الجميلة» بفتات الدعم، وتعده بأنّ الأيّام السود لم تأتِ بعد، عندما تضطر تلك «المسكينة» الى ترشيد دعمها، وجلّ ما تقوم به اليوم هو تأخير الصدمة حفاظًا على صحّة المواطن النفسيّة. بالطبع، فإنّ حكومتنا الاختصاصيّة متميّزة بعلومها الخاصّة ونظريّاتها الّتي لم يصل أحدٌ بعد إليها، إذ تجعل حاجات شعبها الأساسيّة ثانويّة على حساب أولويّات أُخرى، وذلك حسب أهوائها.

يقول عالم النفس الأميركيّ إبراهام ماسلو، إنّ السلوك البشريّ يقوم على دافعٍ ما، وتوافر هذا الدافع يؤدّي بالإنسان إلى القيام بسلوكٍ معيّن والاستمرار فيه، فتنشأ لديه حاجةٌ تولّد فيه توتّرًا يقوده نحو ردود أفعال، ليعيد بواسطتها توازنه الحيويّ. مثال على ذلك، الجوع، الّذي يُعتبر منبّهاً للحاجة إلى الغذاء، يُصيب الفرد بالتوتّر الّذي يدفعه إلى التركيز على المدى القصير فقط، أي تلبية حاجته الفيزيولوجيّة بتناول الطعام لكي يستعيد توازنه الحيويّ، وحينها يستطيع التركيز على الأهداف الأبعد. كما أنّ ماسلو يُصنّف هذه الحاجات، بدءًا من قاعدة الهرم وصولًا إلى رأسه، على النحو الآتي: الحاجات الأساسيّة (الفيزيولوجيّة/ الحيويّة)، ثمّ الحاجة إلى الشعور بالأمان، تليه الحاجات الاجتماعيّة، وتتبعها الحاجة إلى التقدير، لنصل في رأس الهرم إلى تحقيق الذات.

نهَجَ سياسيو لبنان على وضع الشعب اللبنانيّ في قعر هرم الحاجات. فاللبنانيّ الّذي لطالما أكرم زوّاره وأصدقاءه وسيّاحه بما لذّ وطاب، نجده يلهث وراء ما ندر وغاب، يملؤه القلق على طريقة إشباع حاجاته الأساسيّة وما يُصبّر أطفاله. وإن استطاع أن يلبّي حاجته ممّا تمكّن من ادّخاره على مرّ السنين، يحصره السياسيّون بالمستوى الثاني من الهرم، أي بحثه عن الشعور بالأمان في بلدٍ كان يتغنّى بالتعايش والوئام.

ولأنّ حكوماتنا غابت عندما وُزِّع الحياء، فإنّها وصلت من السفاهة لا لأن تلبّي لشعبها أساسيّات عيشه الكريم، بل هي نفسها تُطالبه بأن يصل إلى قمّة الهرم، أي أن يثور ويُغيّر ويبتكر، ويبلغ ملء ذاته بأن يُغيّر المجتمع، ويحقّق تقديرًا شخصيًّا، ويحقّق ذاته. أمام هذه المعضلة الّتي خلَقتها ساديّة الحكومة اللبنانيّة الّتي تدمّر الشعب بيد، وتحضّه على الثورة والقيام بالاضرابات العامّة بيدٍ أُخرى، علينا أن نبحث عن الخلاص.

يكمن الحلّ في ظهور قيادة خلّاقة، وبنّاءة، ونزيهة، ومحطّ ثقة الداخل والمجتمع الدوليّ، وتكون قادرة على مساعدة الشعب اللبنانيّ في الخروج من جحيم عبوديّته للسياسيّ. الأمر أشبه بخروج الشعب العبرانيّ من عبوديّته لفرعون. لم يتغيّر الشعب العبرانيّ حينها، إذ ظلّ يتذمّر طوال أربعين عامًا، لأنّ السلوك البشريّ ميّال الى حبّ السلطة والكبرياء والأنانيّة، لكنّ قيادة موسى كانت المفتاح لتغيّر حال شعبه، وبلوغه الحرّيّة المنشودة، ولو بعد وقتٍ طويل.

ما حصل مع موسى وشعبه لم يكن غريبًا عن ثورة ١٧ تشرين الأوّل في لبنان. لنتذكّر ماذا حصل حينها؟ عندما انطلقت الثورة في نهاية ٢٠١٩، لم يكن الجوع الفيزيولوجيّ هو المحرّك الأساس، بل كان الجوع إلى التغيير، وكان الشعب ممتلئًا بالأمل، ويطمح الى بلوغ ملء حاجاته في قمّة هرم ماسلو، أي تحقيق ذاته. كنّا نجد ثوّارًا، ومجموعاتٍ ثوريّة نشيطة، ومثقّفة، ومندفعة، تسكنها أحلام كبيرة. لكنّ تلك الثورة افتقرت إلى الحكمة والترفّع، أي ظهور قائد «صاحب كاريزما» لخدمة الشعب الثائر.

بحسب علم القيادة البنّاءة، ينجذب الإنسان نحو الفكر، ووضوح الرؤية أوّلًا، ثم لشخص القائد الّذي يجسّد هذه الرؤية. عندما انتفض شعبنا على فساد الحكّام وظلمهم، انجذب في الوقت نفسه إلى أفكار ورؤى تختلف عمّا تولَّد لدى المجموعات الثوريّة. فلم تستطِع أن توجد قائدًا يوحّدها ويجسّد أفكارها، لكي يضمن استمراريّة الثورة وتلتفّ حوله أكبر شريحة من الشعب، وعندها نضمن حماية الثورة وأهدافها.

في الوقت عينه، أدركت السلطة بخبثها وتلوّنها هذا الأمر، فعمدت الى تفتيت هذه المجموعات من ناحية، والدفع بالشعب قدر الإمكان إلى أسفل الهرم من ناحية أُخرى، أي إفقاره وتجويعه، لكي تستطيع كبح جماح أي محاولة ثوريّة محتملة في المستقبل بواسطة التدمير الاقتصاديّ الشامل. فجفّفت موارد البلد من مخزونات العملات الأجنبيّة، وعملت على تدهور قيمة الليرة اللبنانيّة، فتلاشت القوّة الشرائيّة عند المواطن، وبالطبع أصبح يرزح تحت خطّ الفقر.

عمليًّا، كانت الخطّة التدميريّة سهلة التطبيق إلى حدٍّ بعيد. إذ عمدت السلطة الحاكمة عن سابق إصرارٍ وترصّد الى تأخير قانون «الحجز على الودائع»، لتسهِّل تهريب العملة الأجنبيّة بما يقارب 3 مليارات دولار أميركيّ، وعندما استفاقت من غيبوبتها المصطنعة، تحجّجت بأنّ هذا القانون ضرورة مطلقة ودستوريّ، وإن تأخَّر إصداره أفضل من الفوضى والاستنسابيّة!

كذلك، طبّقت سياسة دعم عشوائيّة، وأخلّت بمراقبة الحدود، الأمر الّذي يؤدّي ببساطة إلى تهريب البضائع المدعومة إلى خارج البلد، وهدر مليارات الدولارات الّتي يستفيد منها المهرّبون والتجّار المحسوبين على السياسيّين أنفسهم. ولضمان بقاء الشعب في فقره المدقع، دعَمت الحكومة «جرعة» الفقر عن طريق تضخيم كتلة الليرة اللبنانيّة النقديّة، بطبع كمّيّات هائلة من العملة المحلّيّة الّتي كانت المحرّك الأساسيّ لانهيارها. وبذلك، نضجت الخطّة الّتي ضمنت انغماس المواطن في مستنقع الحاجات الأوّليّة، وطمست اندفاعه نحو أيّ ثورة أو انتفاضة على الظلم.

لا سبيل للخلاص إلّا بإحياء الثورة وبأسرع وقتٍ ممكن. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك والأمر بات أشبه بمعجزة؟ لأنّ الشعب هائم في صحراء الفقر والجوع، وأقصى أحلامه هو حصوله على تأشيرة خروج نحو آفاق وآمال جديدة. إنّ رجاء تحقيق هذه المعجزة يكمن في يد القيادات الثوريّة، ومسؤوليّتها اليوم أكبر، لأنّها مُطالبةٌ ببزوغ قائد من صفّها. فهذا الحلّ هو أساس التغيير الجذريّ وبلوغ الخلاص. لكن، حذارِ من أيّ قائد... نحن في حاجة إلى قائدٍ حقيقيّ وليس الى زعيم سياسيّ، فالفارق شاسع بينهما.

ما يُريده الشعب اليوم وهو بأمسّ الحاجة إليه، قائدٌ يتحلّى بمبادئ حسن القيادة البنّاءة، مغوار في الدفاع عن شعبه، أو بعبارة أُخرى، نحن نحتاج إلى نقيض زعمائنا الحاليّين، لأنّ الزعماء يحضّون أنصارهم على الدفاع والموت في سبيلهم... ويبقى الزعيم زعيم شارع ولا يصلح البتّة ليكون قائدًا في دولة ولوطن يبني المجتمع ويبذل ذاته في خدمته. نحن نرفض زعيمًا متكبّرًا، لأنّنا نرغب في قائد متواضع يرفع من شأن اللبنانيّين ولا يرفع صوره على زاوية كلّ مفترق ومدينة وبلدة... نحن نبحث عن قائد يتحلّى بمبادئ القيادة الفاعلة لانتشال الشعب من قعر جهنم الّذي سهر زعماؤنا على ضمان وصولنا إليه. لذلك نحن نتطلّع إلى شخص يعرف كيف يتّضع ولا يتموضع على كرسيه إلى حين موته أو توريثه. نحن نرجو قائدًا «يعرف ربّه» فيحيا مبدأ «أنا ما جئت لأُخدَم بل لأَخدُم».