دور مصرف لبنان وأهمّيته في ظلّ الفراغ الحاكميّ

نُشر هذا المقال في جريدة الجمهوريّة، في ٢-٨-٢٠٢٣. لقراءة المقال على الموقع، اضغط هنا.

يشهد لبنان في الآونة الأخيرة سلسلة من الفراغات القياديّة، تطال مفاصل الدولة، فهو دولة من دون رئيس، وحكومة، وكثير من المناصب، آخرها حاكميّة مصرف لبنان، وإن كان النائب الأوّل سيشغل هذا المكان مؤقّتًا، إلّا أنّ بلدًا مثل لبنان، لا يمكن أن يعيش وينهض من أزمته الاقتصاديّة من دون مصرفٍ مركزيّ ذي سيادة واستقلاليّة وفعاليّة.

إذ تُعتبر البنوك المركزيّة الحجر الأساس للاقتصادات الحديثة، وتحافظ على الاستقرار النقديّ وسلامة الأنظمة الماليّة فيها. كما تمارس هذه المؤسّسات سلطة كبيرة على حركة الإمداد النقديّ للدولة، وأسعار الفائدة، وقيَم العملات الأجنبيّة. ويشمل دورها المحوريّ صياغة السياسات النقديّة، وتنظيم القطاع المصرفيّ وإجراء أبحاث اقتصاديّة مكثّفة. كما تلعب البنوك المركزيّة في البلدان النامية دورًا حاسمًا في ضمان الاستقرار الاقتصاديّ، وتعزيز النموّ المستدام. ومع ذلك، فإنّ التحدّيات التي تواجهها هذه الدول ومنها لبنان، وبخاصّة في أوقات الأزمات، تؤكّد أهمية الحوكمة الفعّالة للبنك المركزيّ والسياسات النقديّة الحكيمة.

تكمن المهمّة الأولى للمصارف المركزيّة في صياغة السياسة النقديّة وتنفيذها، وتُعَدّ من صميم مسؤوليّاتها. كما تدير هذه السياسات عرض النقود من أجل «ترويض» التضخّم والانكماش، وضمان استقرار الأسعار والنمو الاقتصاديّ المستدام. كما تستخدم البنوك المركزيّة لتحقيق هذه الأهداف أدوات مختلفة، بما في ذلك تعديل أسعار الفائدة، والانخراط في عمليات السوق المفتوحة.

من ناحية أُخرى، تسهر البنوك المركزيّة على ضمان استقرار العملة، فتتمثّل مهمّتها الرئيسيّة في حماية استقرار العملة الوطنيّة في أسواق صرف العملات الأجنبيّة. فعند الحاجة، تتدخّل لمنع التقلّبات المُفرِطة في أسعار الصرف، التي يمكن أن تُعطِّل بدورها التجارة والأنشطة الماليّة الدوليّة. كذلك، وفي أوقات الأزمات الماليّة أو نقص السيولة، تتدخّل البنوك المركزيّة لتمثّل مصدرًا للإقراض كملاذٍ أخير، من خلال توسيع التمويل الطارئ للمؤسسات الماليّة المتعثّرة، فهي تُعزّز الثقة في النظام المصرفيّ، وتمنع الانهيارات المحتملة.

بالإضافة إلى ما ذُكِر، تُنظِّم المصارف المركزيّة القطاع المصرفيّ وتُشرِف عليه، فتمارس البنوك المركزيّة دور السلطة الرقابيّة على البنوك التجاريّة، والكيانات الماليّة الأُخرى. وتضع المعايير الاحترازيّة لضمان متانة القطاع المصرفيّ وحماية مصالح المودعين. وأخيرًا، تُجري البحوث والتحليلات الاقتصاديّة، إذ تكتسب نظرة ثاقبة للاتجاهات الاقتصاديّة الحاليّة والمستقبليّة، وتزوِّد هذه المعلومات صنّاع القرار، وتمكّنهم من توقّع التحدّيات الاقتصاديّة المحتملة.

وبما أنّ لبنان «ماشي» من دون قيادة، يُطرح السؤال: هل يمكن أن «يمشي الحال» من دون حاكم للمصرف المركزيّ؟ ففي حين أنّ الغالبيّة العظمى من البلدان تعتمد على البنوك المركزيّة، فإنّ بعضها يعمل من دون أنظمة مصرفيّة مركزيّة تقليديّة. وهنا نذكر بعضها: فأندورا على سبيل المثال، تعتمد على اتفاقيّة مع دول الجوار، إسبانيا وفرنسا، في ما يتعلّق بشؤونها النقديّة. كما يؤثِّر البنك المركزيّ الأوروبيّ بشكل غير مباشر على سياستها النقديّة. كذلك، إمارة موناكو، فهي تفتقر إلى بنك مركزيّ، لكنّها تستخدم اليورو كعملة رسميّة لها. وكونها جزءاً من منطقة اليورو، يؤدّي البنك المركزيّ الأوروبيّ دورًا محوريًّا في تشكيل سياساتها النقديّة. أخيرًا، جزيرة ناورو: وهي دولة صغيرة مجاورة لأستراليا، ليس لديها بنك مركزيّ، ويرتبط نظامها النقديّ ارتباطًا وثيقًا بأستراليا، التي توفّر الدعم الماليّ والرقابة التنظيميّة لها. وفي جميع الأمثلة المذكورة، لا نجد أيّ تشابه بينها وبين الدولة اللبنانيّة، من حيث الاستقلال الماليّ، أو الجغرافيّ، والسياديّ.

في حالة الدول النامية، الّتي يُشكّل لبنان واحدًا منها، تؤدّي المصارف المركزيّة دورًا قد يكون أهمّ في الحركة الاقتصاديّة في البلاد. فعلى صعيد الاستقرار الاقتصاديّ، غالبًا ما تواجه هذه البلدان مستويات أعلى من التقلّب الاقتصاديّ بسبب العوامل المختلفة، بما في ذلك الصدمات الخارجيّة، والأطر المؤسسّاتيّة الأضعف. لذلك، تؤدّي البنوك المركزيّة دورًا فعّالًا في استقرار هذه الاقتصادات من خلال تنفيذ سياسات نقدية سليمة، والسيطرة على التضخّم، وإدارة تقلّبات العملة.

من ناحية أُخرى، تؤدّي المصارف المركزيّة دورًا مهمًّا في عمليّة الاندماج الماليّ وشموليّته، وهو دورٌ حيويٌّ من خلال تنظيم القطاع المصرفيّ والإشراف عليه. فهي تسهّل الوصول إلى الخدمات الماليّة الرسميّة للمواطنين المحرومين، ممّا يساهم في الحدّ من الفقر وتحقيق التنميّة الاقتصاديّة.

كما يُعَدّ الحفاظ على استقرار سعر الصرف لدى البلدان النامية أمرًا بالغ الأهميّة للتجارة الدوليّة وجذب الاستثمارات الأجنبيّة. فتتدخّل البنوك المركزيّة في أسواق الصرف الأجنبيّ لإدارة تقلّبات العملة وضمان القدرة التنافسيّة. كما يمكن للبنوك المركزيّة أن تدعم التنمية الاقتصاديّة من خلال توفير التمويل والتسهيلات الائتمانيّة الموجّهة للقطاعات الرئيسيّة، الأمر الذي يؤدّي إلى تعزيز هذا الاستثمار، وتطوير البنية التحتيّة، والنمو الاقتصاديّ العامّ.

في العودة إلى المشهد المحلّيّ، واجه لبنان أزمة اقتصاديّة حادّة بدأت أواخر العام 2019، وها هي تستمرّ في التفاقم. فوجد مصرف لبنان المركزي نفسه في بؤرة الأزمة بسبب مزاعم سوء الإدارة، وسوء السلوك الماليّ. وقد ساهمت بعض القضايا الرئيسيّة في هذه الأزمة، منها: السياسات النقديّة غير المستدامة، فاتّبع مصرف لبنان سياسات تجلّت في أسعار الفائدة المرتفعة والتدخّلات القويّة في العملة، ممّا أدى إلى نقص حادّ في احتياطيات النقد الأجنبيّ، وانخفاض سريع في قيمة العملة الوطنيّة. كذلك، تسيَّس مصرف لبنان، فلا يمكننا أن نتجاهل مزاعم التدخّل السياسيّ، لا بل الطائفيّ أيضًا خصوصًا مع الفراغ الحاصل في رأس هرم مصرف لبنان، الأمر الذي يُضرّ باستقلاليّته وقدرته على اتّخاذ قرارات محايدة. وقد أدّى ذلك إلى ضرب الثقة بوجه العموم، وعرقلة الاستجابات السياسيّة الفعّالة.

كما أنّ الشفافيّة والمساءلة أمران أساسيّان للبنوك المركزيّة للحفاظ على المصداقيّة. فقد أثار الافتقار إلى الشفافيّة في عمليات مصرف لبنان وتعاملاته الماليّة مخاوف المواطنين والمستثمرين الدولييّن، على الرغم من حرصه على بثّ الطمأنينة «ولو الإعلاميّة»، التي لا تُجدي نفعًا على المدى الطويل. كذلك، كشفت الأزمة الاقتصاديّة في لبنان عن نقاط ضعف في الإطار التنظيميّ والرقابة على القطاع الماليّ فيه، ممّا سمح بممارسات محفوفة بالمخاطر، وهروب رؤوس الأموال إلى خارج البلد، بطريقة استفاد منها أصحاب النفوذ على حساب غيرهم من المواطنين.

ويبقى السؤال: ما عواقب غياب أو سوء إدارة البنوك المركزيّة، وخصوصًا أنّنا شرعنا نختبر نوعًا من هذا الفراغ في لبنان؟ تكمن تبعات هذا السيناريو في انعدام الاستقرار الاقتصاديّ، ففي البلدان التي لا توجد فيها بنوك مركزيّة، يمكن أن يؤدّي الافتقار إلى تنظيم عرض النقود وأسعار الفائدة إلى تقلّبات واضحة في التضخّم والنمو الاقتصاديّ. كما قد يؤدّي عدم اليقين المتزايد إلى إعاقة الاستثمارات طويلة الأجل، كما هي الحال الآن في لبنان. والأكثر من ذلك، نشهد منذ فترة ليست بالقصيرة تقلّب العملة اللبنانيّة وعدم استقرارها، فنحن في شبه غياب للبنك المركزيّ القادر على التدخّل في سوق الصرف بقوّة، الأمر الّذي يؤدّي إلى زيادة تقلّبات العملة، ممّا يعقِّد اليوم حركة التجارة والاستثمار الداخليّة والخارجيّة.

اليوم، مع فراغ مركز حاكم مصرف لبنان، سيغيب معه «مُقرِض الملاذ الأخير»، ممّا سيؤدّي إلى اشتداد الأزمة الماليّة في لبنان، الأمر الذي قد يقود إلى تدهور متسارع للبنوك التجاريّة، والانهيارات الهيكليّة بسبب قدرة الحكومة المحدودة على تحقيق الاستقرار في القطاع الماليّ. وأكثر من ذلك، قد يؤدّي عدم وجود حوكمة رئيسيّة لمركزيّة مصرف لبنان تُشرف على النظام المصرفيّ، إلى زيادة مخاطر عدم كفاية التنظيم الماليّ، ممّا يترك الباب مفتوحًا للممارسات المصرفيّة السيئة المحتملة وزيادة التعرّض للصدمات الاقتصاديّة.

وبالرغم من تخوّفنا من هذا الفراغ، لا يغفل على أحد أنّنا نجني اليوم جميعنا ثمار سوء إدارة مصرف لبنان المركزيّ خلال الأزمة، وعواقبها الوخيمة على الاقتصاد، فمن ناحية نعيش التضخّم المفرط وانخفاض قيمة العملة المحليّة وتدهورها، الأمر الذي أدّى إلى تآكل القوة الشرائيّة لدى اللبنانيّ وتفاقم مستويات الفقر، وانهيار مستوى المعيشة. فعلى الرغم من وجود حاكم لمصرف لبنان على رأس عمله منذ ثلاثين عامًا، أدّت الأزمة إلى انهيار القطاع المصرفيّ، وتقليص حجمه في السوق المحلّيّ. وتمّ فرض قيود على رؤوس الأموال، ممّا كان أحد الأسباب إلى تقييد الوصول إلى الودائع وخلق أزمة سيولة لدى الجميع.

كذلك، أدّى الانكماش الاقتصاديّ إلى تقلّصات كبيرة في الناتج المحليّ الإجماليّ، وارتفاع معدّلات البطالة، ممّا فاقم المصاعب الاجتماعيّة والاقتصاديّة وأضرّ بالأمن القوميّ. من دون أن ننسى فقدان المستثمرين الدوليّين الثقة في النظام الماليّ اللبنانيّ، الأمر الذي قاد إلى انخفاض الاستثمارات الأجنبيّة وهروب رؤوس الأموال، أو تجنّب لبنان بعد أن كان ملاذًا آمنًا لدول المنطقة على وجه الخصوص.

لا يمكن للبنانيّ أن يستسلم للظروف الراهنة والانهيار، فثمّة حلول للأنظمة الماليّة المرنة في لبنان، كضمان استقلالية مصرف لبنان. فيجب على الدولة اللبنانيّة ضمان استقلالية مصرفها المركزيّ عن التأثير السياسيّ، وهذه عمليّة ولو كانت شبه إعجازيّة، إلّا أنّها جوهريّة. إذ يمكن للبنك المركزيّ المستقلّ اتّخاذ قرارات محايدة بناءً على الأسس الاقتصاديّة والاستقرار طويل الأجل، والمصلحة العامّة لا الخاصّة.

كذلك، ينبغي تعزيز الشفافيّة وآليّات المساءلة لاستعادة ثقة المواطنين والمستثمرين والنظام الماليّ الأوسع. كما يجب على لبنان كونه من الدول النامية، أن يتبنّى سياسات نقديّة حكيمة تراعي ظروفه الاقتصاديّة الفريدة، ويركّز على الاستقرار والنموّ المستدام، لا الظرفيّ كما كانت الحالة، والرهان على المواسم السياحيّة على سبيل المثال لا الحصر.

أخيرًا، يجب تعزيز الأطر التنظيميّة، فتنفيذ أطر قويّة والإشراف الفعّال على المؤسسات الماليّة يمكن أن يخفّفا من المخاطر الهيكليّة ويمنعا سوء السلوك الماليّ. أيضًا، يجب على لبنان أن يسعى جاهدًا من أجل التنويع الاقتصاديّ، والقدرة على الصمود لتقليل الاعتماد على قطاعات محدّدة وعوامل خارجيّة «خارجة» عن دائرة قراره.

هكذا رأينا أنّ البنوك المركزيّة تؤدّي في البلدان النامية دورًا حاسمًا في ضمان الاستقرار الاقتصاديّ، والشمول الماليّ، والنموّ المستدام. كما تُعدّ حالة الأزمة الاقتصاديّة في لبنان بمثابة تذكير صارخ بعواقب سوء الإدارة وأهمّيّة استقلاليّة البنك المركزيّ، وشفافيّته، وسياساته النقديّة الحكيمة. كما يمكن للبلدان النامية بناء أنظمة ماليّة أكثر مرونة وتمهيد الطريق للتنمية الاقتصاديّة المستدامة، من خلال تنفيذ الإصلاحات المناسبة وتعزيز الرقابة التنظيميّة.

فالبنوك المركزيّة هي ركائز لا غنى عنها للاستقرار الاقتصاديّ والثقة في النظم النقدية في جميع أنحاء العالم. كما أنّنا لا نبالغ في الحديث عن مساهمتها في النموّ الاقتصاديّ المستدام والأمن الماليّ. فالبلدان التي لا توجد فيها بنوك مركزية أو تلك التي تواجه تحدّيات الحوكمة، تكون العواقب المحتملة على اقتصاداتها واستقرارها النقديّ كبيرة. ويبقى ضمان استقلاليّة وفعالية البنوك المركزيّة أمرًا بالغ الأهمية بالنسبة للحكومات التي تسعى إلى حماية المصالح الاقتصادية طويلة الأجل لدولها. ولا يخطر على بال أحدهم، أنّ لبنان «غير» وكما يمكن أن يسير من فراغ رئاسيّ إلى فراغ حكوميّ، فإنّ الفراغ الماليّ المصرفيّ قد يكون بمثابة الضربة القاضية له.