أزمة الكهرباء من عتمة البيوت إلى ظلام العقول
في سياق الأزمة السياسيّة - الاقتصاديّة التي تجتاح لبنان، وبعد عقود من اختراع توماس أديسون المصباح الكهربائيّ، تبرز مهمّة الحصول على الكهرباء هاجسًا وجوديًّا عند كلّ لبنانيّ، سواء أكان فقيرًا يريد أن يُنير بيته ويحفظ بعض الأطعمة ويبقى على تواصل عبر الانترنت الذي أصبح من أساسيّات الحياة الكريمة، أم كان غنيًّا يريد لمعامله ومنشآته أن تعمل بوجهٍ اعتياديّ، كي تدور عجلة الإنتاج والاستثمار أسوةً بأيّ صاحب عمل في أيّ دولة، ولو كانت من دول العالم الثالث.
بالطبع، فمسألة الكهرباء هي في صميم مطالبات اللبنانيّين الذين يستنكرون الشلل الذي يقوِّض قطاع الكهرباء، وما يشمله من سوء إدارة وفساد، فمؤسّسة كهرباء لبنان كالبنت المُدلّلة التي تهدر الأموال من دون حساب أو تعقّل ومن دون أدنى مجهود. وما يزيد الطين بلّة، هو تراجع إنتاج الكهرباء بوجهٍ أكبر في العام ٢٠٢١ وارتباطه بسعر الدولار الأميركيّ لأنّه مرتبط بأسعار النفط ضمن دوّامة تسحب البلد بأجمعه وبسرعة مَهولة نحو القاع.
في المشهد المقابل، ولمواجهة إخفاقات شبكة مؤسسة كهرباء لبنان التي باتت مألوفة لدى الجميع، تَرسَّخ وجود باقة من الحلول البديلة المتنوّعة للحصول على الكهرباء، أغلبها حلول مناطقيّة، كما أصبح لدينا نقابة لأصحاب المولّدات، وبالطبع فإنّ هذه المولّدات العطشى للمازوت عرفت في المرحلة الأخيرة شِبه شلل، لأنّ زمن تشغيلها تضاعَف مقارنة مع استِطاعَتها اليوميّة، ومع شحّ المازوت انضمّ أصحابها إلى الطبقة التي تستجدي من الدولة مصدر عملها.
يتركّز قطاع الكهرباء في البلد بطريقة شبه احتكاريّة بيد كهرباء لبنان، فهي مؤسّسة عامّة تخضع لإشراف وزارة الطاقة والمياه. وعلى رغم أنّ شبكة الكهرباء تمتدّ إلى ما يزيد من ٩٩٪ من أراضي لبنان، إلّا أنّ عجز الانتاج وسوء إدارة البنية التحتيّة بوجه مُنتظم أدّيا إلى انقطاع التيّار الكهربائيّ، وقد وصل إلى أكثر من ٢٠ ساعة يوميّا. وعلى رغم متفاوت ساعات التقنين بحسب المناطق، فإنّ أوفر اللبنانيّين حظًّا لا يستطيع أن يؤمّن احتياجاته الضروريّة من التيّار الكهربائيّ، فأصبح مشهد الظلام الحالك السِمة الطاغية لصيف ٢٠٢١ في بلدٍ يجد في السياحة سبيلًا للخلاص، ولو المؤقّت.
بالطبع، وكأيّ أزمة نواجهها اليوم، لم تكن النتيجة مفاجئة بل حتميّة، ولطالما دلّت المؤشّرات على ذلك. لكنّ الشعب احترفَ عيش اللحظة، وترك الغدّ لهمومه... في ما يخصّ الكهرباء، دلّ مؤشّر انتاج كهرباء لبنان إلى عجز مقابل الطلب المحلّيّ مقداره ٣٧٪ في العام ٢٠١٨، فكم بالحريّ سيكون هذا العجز مضاعفًا الآن مع الأزمة الاقتصاديّة المتشعّبة (دولار - نفط - إنتاج)؟ تعود مشكلة العجز إلى تأثّره بشدّة بسياق الحرب اللبنانيّة، وكذلك حرب العام ٢٠٠٦ بما تدمّر حينها من بُنى تحتيّة، وهذا العجز يتفاقم اليوم في أدائه التقنيّ والماليّ الضعيف، إذ كان ينبغي إعادة هيكلة قطاع الكهرباء وتطويره منذ حوالى ٢٠ عامًا.
وتُقدّر الخسائر التقنيّة وغير التقنيّة بحوالى ٤٠٪ من إجمالي الانتاج، ويعود ذلك بوجهٍ أساسيّ إلى مشاكل إدارة البنية التحتيّة، مثل التأخّر في السداد، أو عدمه، أو سرقة مصادر الكهرباء... بالإضافة إلى ذلك، لا تغطّي التعرفة الحاليّة تكلفة الإنتاج، وهذا ما سيتضاعف تأثيره طالما أنّ الدفع يتمّ بالليرة اللبنانيّة وتَكلفة الإنتاج (مشتقّات نفطيّة، صيانة، تطوير...) تُسَدّد بالعملات الأجنبيّة. هذا ما يجعل مؤسسة كهرباء لبنان في المركز الثاني في المساهمة في الدين العامّ، إذ تُقدّر التحويلات من خزانة الدولة إلى المؤسّسة بمبلغ يتراوح بين ١,٥ إلى ٢ مليار دولار في السنة.
في القرن الحادي والعشرين، نجد أنّ انقطاع التيّار الكهربائيّ سيؤثّر لا محالة في اقتصاد أيّ بلد، وخصوصًا كبلدٍ مثل لبنان حيث ترتفع فيه فواتير الطاقة سواء للأفراد، أو لأصحاب الأعمال التجاريّة وكذلك الصناعيّة، فلا أحد يستطيع النجاة من مِقصلة الفواتير الشهريّة التي تقتصّ جزءًا كبيرًا من مدخوله أو عائداته.
إذا اطّلعنا على أحدث الأرقام، فإنّها تحدّثنا بنفسها عن الواقع ببلاغة تامّة. فلقد قدّمت مؤسسة كهرباء لبنان ما مقداره ١١,٢٧٥ جيجاوات ساعيّ بين شهري كانون الثاني وتشرين الثاني في العام ٢٠٢٠، وهذا ما يُشير إلى انخفاض مقداره ١٨,٦٪ مقارنةً مع الفترة نفسها في العام ٢٠١٩. وهذا مآله بالطبع إلى فضيحة الوقود المغشوش عبر شركة سوناطراك الجزائريّة، التي تُضاف إلى ملفّ البواخر التركيّة الذي ما زال قيد التحرّي وكشف الملابسات إلى أجلٍ غير مسمّى. لكن علاوة على ما ذُكر، تبرز الصعوبة في امداد لبنان بالمشتقّات النفطيّة التي تُديرها وزارة الطاقة والمياه، في ظلّ محدوديّة مصادر الفيول الخاصّ التي تشغّل معامل الكهرباء في لبنان من ناحية، والقيود الصارمة على تسييل احتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبيّة من ناحية أخرى.
في المشهد اللبنانيّ اليوميّ، ومقابل عجز مؤسّسة كهرباء لبنان عن توفير الفيول لتدوير محطّات الانتاج، لم تغرق الأسَر اللبنانيّة في الظلام الدامس وحسب، بل أصبحت تعيش التعاسة الحقيقيّة في آب اللّهاب. ففي بلد المازّة والأطباق الشهيّة، تَسرّب الأمن الغذائيّ ليكون تهديدًا حقيقيًّا للقطاع السياحيّ، وكذلك على السلامة العامّة نظرًا لعدم مقدرة منتجي المواد الغذائيّة ومستورديها ضمان جودة منتوجاتهم وسلامتها. كذلك، ظهرت مشكلة تزويد الاتّصال بشبكة الانترنت خطرًا، لا على القطاع الإداريّ وحسب، بل كذلك على القطاع التربويّ وكأنّ بلبنان منارة الشرق سيعرف عامًا دراسيًّا مشلولًا هو الثالث على التوالي. كرة الثلج لا تقف هنا، فمع انهيار قطاع الطاقة انهار معه القطاع الصحّي والطبّي، مفخرة لبنان وضمان حيويّته. وكي لا يبقى للبنان أيّ شيء يفخر به، ستأتي أزمة مصادر الطاقة على القطاع المصرفيّ المتهالك، فيعود اللبنانيّ إلى عصور ما قبل التاريخ.
وعلى رغم ضغوط المانحين الدوليّين لإعادة هيكلة قطاع الكهرباء والطاقة، فإنّ الخلافات القانونيّة، وشحّ الموارد، وعدم الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ، حالت جميعها حتى الآن دون تنفيذ الإصلاحات اللازمة: إعادة هيكلة تعرفة فاتورة الكهرباء، وزيادة الإنتاج، وإعادة تأهيل البنية التحتيّة القائمة. إلى حينه، يبقى لدى اللبنانيّ ثلاثة مصادر مختلفة لتمدّه بالطاقة الكهربائيّة، وهي بذاتها «لا حول لها ولا طاقة».
فقد أعلن لبنان مؤخّرًا عن اتفاق مع العراق لتغطية جزء من احتياجاته من المشتقّات النفطيّة، لكنّ إمدادات الوقود كما سبق أن ذكرنا ليست المشكلة الوحيدة التي تطرحها مشكلة احتياطات البلد من العملات الأجنبيّة الآخذة في النفاد. إنّ جزءًا كبيرًا من تكلفة الصيانة، والإشراف على حسن أداء المحطّات الكهربائيّة، وقطع الغيار، والزيوت، ومستلزمات الصيانة تُدفع أيضًا بالدولار الأميركيّ. وفي حين تعمل مؤسّسة كهرباء لبنان على تأخير سداد التزاماتها، يزداد سخط شركائها، ويُبدي معظمهم رغبته في عدم تمديد عقودهم، أو حتّى إنهائها على الفور، فالمؤسّسة بالطبع ليست الجهة الأقوى في هذه المعادلة.
من ناحية أخرى، تَظهر ممارسات بديلة في لبنان لتعويض انتاج الكهرباء ونقلها وتوزيعها، حيث تمثّل المولّدات الكهربائيّة الخاصّة ما يقارب ٨٤٪ من مصادر الكهرباء للأسَر والأعمال الصغيرة في العام ٢٠١٩ خلال ساعات التقنين، وهذا ما يشكّل سوقًا غير رسميّ يوازي قيمته الـ ٢ مليار دولار أميركيّ سنويًّا، كما يوفّر ١٣٢٠٠ وظيفة، و٧٠٠٠ مستثمر، وتقوم البلديّات بتنظيم عمل شبكة المولّدات، كما تعود إليها مهمّة مراقبة التعريفات والتدقيق فيها، كذلك عمليّة تأسيس البنى التحتيّة، ونطاق عمل أصحاب القطاع الخاصّ، بالطبع تخضع هذه الأمور غالبًا لميزان القوى ولعبة السياسة المحليّة.
بالتوازي مع ما ذُكِر، استحوذت بعض المنازل والشركات الكبرى وكذلك البلديّات على أنظمة إنتاج محليّة متجدّدة منذ حوالى ١٠ سنوات، إذ تمّ نشر أنظمة الطاقة الكهروضوئيّة (التي تُنتج الكهرباء من الطاقة الضوئيّة كالشمس) ضمن شبكة توزيع منتظمة، يُضاف إليها مجموعة من مولّدات الديزل لتأمين التيّار الكهربائيّ خلال فترات التوقّف، وبذلك أصبح البيت اللبنانيّ متعدّد المصادر/ الفواتير الكهربائيّة: (عامّة، وخاصّة، وذاتيّة).
ولقد انتشرت مصادر الكهرباء البديلة المتجدّدة بكثافة في الآونة الأخيرة في جميع أنحاء لبنان، وخصوصًا على المستوى الصناعيّ للاستفادة من الطاقة الشمسيّة، وانخفاض تكلفتها مقابل التعرفة التقليديّة. وأصبحت اليوم الطاقات المتجدّدة مُربحة للغاية، إذ بلغ متوسّط تكلفة الوحدة لتوليد الطاقة الشمسيّة ٩,٥ سِنتات أميركيّة لكلّ كيلوواط ساعيّ في العام ٢٠١٨، وهو ما يلائم جدًّا المعامل الانتاجيّة، خصوصا أنّ تكلفة الشراء والتركيب يمكن تقسيطها وتوزيعها على سنوات عدّة.
هذا ما قد يُكَوّن بارقة أمل للنهوض من قعر الأزمة الاقتصاديّة - الكهربائيّة «في ظلّ ديمومة شروق الشمس علينا، وعدم مقدرة المسؤولين على السمسرة بها»، فتطوير مولّدات الطاقة المتجدّدة يمكن أن يحلّ مشكلة النقص المتفاقمة على اتّساع الأراضي اللبنانيّة. لكنّ الأمور ليست ورديّة للجميع، إذ يبقى متوسّط سعر تكلفة الكيلوواط الواحد على مدار السنة ما يُعادل ٩٠٠ دولار أميركيّ، كما أنّ هذه الأجهزة المستوردة باهظة الثمن، وتتطلّب مقدرات استثماريّة كبيرة لا تتوافر سوى لدى الشركات الصناعيّة والتجاريّة، والمؤسّسات العامّة الّتي يمكن أن تحصل على مِنَح من دول صديقة، وكذلك قلّة قليلة من اللبنانيّين الميسورين.
هكذا، نجد أنّ مكوّنات مصادر إمدادات التيّار الكهربائيّ أصبحت يوما بعد يوم غير متجانسة ومتباينة، لكنّها تلبّي هدفا مزدوجا: ضمان استمراريّة التيّار وخفض فاتورة المستهلكين. وهكذا، وكما تعوّدنا في هذا البلد العزيز الغائب الحاضر، الذي يُنتظر منه إعادة هيكلة قطاع الكهرباء منذ أكثر من ٢٠ عامًا، نرى أنّ تعدّد الجهات الفاعلة المستثمرة في القطاع الكهرباء يؤدّي إلى قَلب الأقطاب في نظام الكهرباء في لبنان أسوةً بأيّ قطاع آخر حيث نلمس شللًا يضرب أيّ حلٍّ ممكن، لأنّ المصالح الشخصيّة المتشابكة ستغلب في هذه الحالة على المصلحة العامّة.
أخيرًا، تبقى التساؤلات التالية مطروحة: ما الآفاق المستقبليّة لقطاع الكهرباء في لبنان؟ كيف يمكن الحفاظ على خدمة موثوقة تطال الجميع في ظلّ توتّر بين قطبين: نظام خدمة عامّة مركزيّ وآخر خاصّ وغير مركزيّ؟ بالطبع، إنّ الافتقار إلى التنظيم العامّ سيُهدّد بتوسيع التفاوتات الاجتماعيّة والمناطقيّة، إذ يمكن أن يؤدّي التّمايُز المتزايد في تخديم الكهرباء من حيث جودتها وساعات الخدمة، مع ظاهرة إضفاء الطابع الفرديّ على الممارسات، وإنشاء مناطق ذات امتيازات خاصّة، إلى زيادة غير مرغوبة ولا يمكن تحمّلها بعد في تَشرذم النسيج الاجتماعيّ والاقتصاديّ والمناطقيّ في لبنان.
جميعنا يَعي أنّ الحلّ على المدى الطويل يكمن في تحديث محطّات الطاقة عن طريق تعديل ما يمكن تحويله كي تعمل على الغاز الطبيعيّ (على أمل إنتاجه محلّيّا يوما ما، أو لتوافره بوجه أكبر من الفيول)، وزيادة حصّة الطاقة المتجدّدة في إمداد البلد بالكهرباء، لا سيّما أنّ لبنان يعرف أشهرًا مُشمسة طويلة، وكذلك تيّارات هوائيّة ملائمة لتوليد الكهرباء. وباختصار، يمكن أن نقول: «إستثمِر في الطاقة المتجدّدة ولا تجدّد بشبكة الكهرباء القديمة المتهالكة». لكن لبنان يحتاج الآن إلى خطّة قصيرة المدى، لأنّ جميع العوامل تُشير إلى ازدياد ساعات التقنين في ظلّ اشتداد عزم العاصفة (نقص الوقود، ونفاد النقد الأجنبيّ، وارتفاع تكلفة مصادر الكهرباء الخاصّة).
في عين عاصفة الطاقة الكهربائيّة، ثمّة عاصفة تشتدّ اليوم في أذهان العائلات اللبنانيّة مع اقتراب العام المدرسيّ والجامعيّ... فبعد انقطاع الحضور الذي قاربَ السنة والنصف بسبب جائحة كورونا، كيف يعود التلامذة إلى المدارس؟ كيف يتنقّلون مع غلاء المشتقّات النفطيّة؟ كيف يستدفئون؟ كيف يتصفّحون المواقع الإلكترونيّة ويتعلّمون عن بعد؟ من يتحمّل تكلفة الحواسيب المحمولة؟ وهل باتت الدراسة أمرًا ثانويًّا؟ أم هي لأصحاب الامتيازات وحسب؟ وهل التسرّب المدرسيّ لا يولّد خطرًا اجتماعيًّا مضاعفًا؟
ما يمكن فعله في هذه اللحظة، وقبل انقطاع التيّار الكهربائيّ عن منازلكم، وبالتالي انقطاع الانترنت بعد حين، والرجوع إلى العصور الحجريّة حيث ولَّدنا النار باحتكاك، علّموا أولادكم أنّ المصباح الكهربائيّ تمّ اختراعه العام ١٨٩٧، وأنّ أوّل استخدام للإنترنت كان العام ١٩٦٩، هذا ما دُرِّس يوم كنّا على مقاعد الدراسة. وكمعلومة عامّة، إنّ موقع مؤسّسة «كهرباء» لبنان على الانترنت خارج عن الخدمة حتى اللحظة!