الشعب السالك في الظلمة... سيصبح شعبًا عظيمًا
يعتاد اللبنانيّون أن «يُعايدوا» بعضهم بعضًا فيقولون: «ينعاد عليكم»! إنّ ما تقصده هذه الأمنيّة هي إعادة البركات التي عشناها في السنة الماضية واستمراريّتها في العام القادم، فحقيقة البقاء سالمين حتّى فترة معيّنة، تقتضي منطقيّا أنّ هذه الدرب كانت سالمة نوعًا ما... لكن، في المفارقة اللبنانيّة، نجد أنّ هذه الدرب التي أوصلتنا إلى نهاية العام ٢٠٢١، كانت كارثيّة في أقصى المعايير، لدرجة أنّ اللبنانيّ بات يخشى أن «يُعايد» بالسنة الجديدة. فكيف له أن يتمنّى «إعادة» لعنات سنة الـ٢٠٢١ لا بركاتها؟ ومن أين تأتي البركة في ظلّ طبقة حاكمة، هي إنّ صحّ التعبير طبقة حالكة، سدّت مصادر النور، وأصبح الشعب اللبنانيّ هو الشعب السالك في الظلمة...؟
في هذه الأيّام، تتألّق بلدان العالم جميعها بأضواء الميلاد، تلك الأضواء التي ترمز إلى الخلاص وبهجة العيد. لكنّ لبنان اليوم، غارق في الظلمة، وهذه الظلمة تختصر في رمزيّتها حقبة كاملة عانى ويعاني فيها الشعب جميع أنواع القهر، والفقر، والطغيان. وقد يسأل المشاهد: مَن تُراه هذا الشعب العظيم، الّذي يفتقد لجميع مقوّمات العَظَمة لأمّة بات من يحكمها يقودها بنفسه نحو الظلام الدامس، ظلام الفكر، وتلاشي الحرّيّات، وتبخّر الخيرات؟
يصل المشهد اللبنانيّ اليوم إلى فصلٍ أصبح فيه الحاكم الّذي يقود الشعب وحيدًا شيئًا فشيئًا، وقد يظنّ أن صوته صارخ في البريّة، لكنّنا لا ندري إن كان يعي أنّ من يتبعه نحو تمام الهلاك باتوا معدودين. أدرك هذا الشعب منذ فترة أنّ الشعارات الفارغة لا تجعل منه أبدًا شعبًا عظيمًا، فالعظمة في الأفعال وليست في الأقوال، وإن سبق له أن تصدّى لأزماتٍ سابقة بدرع الإيمان والرجاء، فإنّ هذا الرجاء يعرف عمقا أكبر اليوم بعد أن خابت جميع آماله بوعودٍ بالتغيير والإصلاح سمعها من على المنابر ولم يلتمسها يومًا.
في أحلك الظلمات، لجأ الشعب إلى نوره الداخليّ، وعرف مع مرور الزمن كيف أنّ لكلّ أزمة حلًّا ما. قد تكون هذه الحلول واقعيّة، تقوم على حسّ البقاء وبعض الحلول الجزئيّة والبسيطة. فغيّر هذا الشعب من طبعه الاحتفاليّ الصاخب، ليبحث بعمقٍ وهدوء عن حلول تنقذه من حالة الضياع. وفي تطلّعه إلى الوراء وإعادة قراءة مسيرته منذ حوالى العام، يجد كيف أنّه تفادى بوجهٍ أو بآخر السقوط في المؤامرات الّتي حيكت ضدّه، كي يهلك تمامًا في برّيّة الفوضى والعجز. فها هو يكتشف أنّ عظمة الشعب هي مسيرة «يُصبح» فيها يومًا فيومًا عظيمًا، ولا يرث هذه العظمة من أفواه السياسيّين.
لعلّ الضربة الأكبر الّتي قصمت ظهر الشعب اللبنانيّ كانت انفجار مرفأ بيروت وما تبعه. هذه الكارثة، وإنّ كان وقعها عليه صاعقًا وطرحته أرضًا، أدّت دورًا أساسيًّا في كشف أقنعة الطبقة السياسيّة، فأصبحت خطاباتها من دون صدى، وتتلاشى في برّيّة الكذب، وفي إثرها تكاتف الشعب ودعم مسيرة القضاء، الذي آمن أنّ في حفاظه على القضاء النزيه... سيصبح يومًا ما شعبًا عظيمًا!
كذلك، أتت ضربة تلاشي النور، وانقطاع التيّار الكهربائيّ. فما بدأ بساعاتٍ من التقنين، انتهى بساعاتٍ من التغذيّة الكهربائيّة، وقد وصلت الحال إلى انقطاع شامل في بعض المناطق. فدبّر الشعب الّذي يصارع من أجل البقاء بعض مصادر الطاقة البديلة، وأصبح يتحدّث عن تخفيف هدر الكهرباء، ويبحث عن الطاقة المتجدّدة، فكانت الحاجة أمّ الاختراعات إذ أصبح في كلّ بيت ورشة مصغّرة. وفي بلد الينابيع والأنهار، تَكبّد الشعب تكاليف فواتير مياه متعدّدة، ومع انقطاعها وغلاء مياه الشرب، عرف كيف يعمل على ترشيد استهلاكه، الذي آمن أنّ في حفاظه على موارده الطبيعيّة... سيصبح يومًا ما شعبًا عظيمًا!
وتحت وطأة أزمة محروقات شلّت اللبنانيّ في تحرّكاته، تفاقمت الأزمة مع عدم كفاءة شبكة المواصلات العامّة، لا بل تحوّلها إلى سراب وعود زائفة بين أنفاق تصل بين أقضيته، وسككٍ حديديّة تربط مدنه، وباصاتٍ طائرة، وطائراتٍ سابحة... وكلّ ما لم تتخيّله أكثر البلدان تطوّرًا. أمام هذا الواقع، أصبح اللبنانيّ يعي أهمّيّة التنقّل المشترك وعرض خدماته لنقل زملائه في العمل والدراسة، ووجد في ركوب الدرّاجات الهوائيّة المتعة والفائدة البدنيّة والبيئيّة، فآمن أنّ في تغلّبه على صعوبات الحياة... سيصبح يومًا ما شعبًا عظيمًا!
وفي مجال التربية والتعليم، وعندما كان يتغنّى لبنان بأمجاده الحضاريّة وتصديره الأبجديّة إلى العالم أجمع. أصبح عاجزًا عن تأمين مستلزمات رسالة التعليم الأساسيّة لنشئه. كما فشلت الحكومات عن تأمين أساسيّات التعلّم عن بُعد كما وعدت، في توزيع الأجهزة اللوحيّة، أو توفير الانترنت السريع. فباتت بعض المنازل تشكّل صفوفًا صغيرة يتشارك فيها التلامذة جهاز كومبيوتر واحد. ولم يستسلم اللبنانيّ أمام غلاء القرطاسيّة والمستلزمات الدراسيّة، فقايَض كتبه المدرسيّة عندما وجد نفسه عاجزًا عن شراء الجديدة منها. ولم يستحِ باستعمال حقيبة السنة الماضية، وتَحمّل الأساتذة الضائقة الأكبر في قبولهم استمرار السنة الدراسيّة رغم تأخّر رواتبهم، وتكافَل الشعب لضمان استمراريّة العلم، الذي آمن أنّ في دعمه مستقبل أطفاله وشبيبته التربويّ والعلميّ... سيصبح يومًا ما شعبًا عظيمًا!
أمّا على المستوى الصحّيّ والطبّيّ، فقد واجه لبنان جائحتين، الأوّلى عالميّة وهي جائحة كوفيد-١٩، فأظهرت شريحة كبيرة من المواطنين إقبالًا على تلقّي اللقاحات، ونُظِّمت الراليّات لتسريع نسب المناعة بين اللبنانيّين وغيرهم من الجنسيّات. أمّا الجائحة الثانية، فكانت محلّيّة، وضربت القطاع الصحّيّ بوجهٍ عامّ، تمثّلت في رفع الدعم عن المستلزمات الطبيّة، وتضاعفت أسعار الأدوية، وانعدمت مقدرة الفقراء على الاستشفاء. فمال بعضهم إلى وسائل الطبّ التقليديّ في أزمة ندرة الأدويّة الوقائيّة، كما كشف اللبنانيّون عن نخوتهم، وشكّلوا شبكات فرديّة تقوم على جلب الدواء المفقود من بلدان الاغتراب. كذلك، تكافلوا فيما بينهم لدعم أفقر الفقراء عن طريق جمع التبرّعات عبر وسائط التواصل الاجتماعيّ، وأبى الشعب أن يموت جرّاء تقصير حكوماته في إتمام مهامها، الذي آمن أنّ في أمنه الصحّيّ وتكافله الإنسانيّ... سيصبح يومًا ما شعبًا عظيمًا!
ولا ننسى الأزمة الماليّة والاقتصاديّة، الّذي أضحى فيها كلّ لبنانيّ بحدّ ذاته مصرفًا، وصرّافًا، ومحلّلًا اقتصاديًّا. وبدل أن يخضع بسذاجة إلى تعاميم وقرارات تستهدف إفقاره، نجح نجاحًا مضاعفًا أمام خطّة المنظومة الحاكمة، أوّلًا في أنّه وضع خطّة اقتصاديّة مصغّرة لعائلته كشفت فشل الحكومات المتتاليّة في وضع الخطط الاقتصاديّة الناجحة. وثانيًا، في أنّه قَلَب التعاميم إلى مصلحته بعد أن وسّع من معارفه الاقتصاديّة، وزاد من حيله العمليّة، فتغلّب بطريقة أو بأُخرى على أزمة السيولة، فادّخر هذه الأخيرة للحالات الحرجة، مقابل استخدامه للبطاقات الائتمانيّة لتسيير أمورٍ أُخرى، وانخرط في السوق السوداء، بعد أن شرّعتها الطبقة السياسيّة بطريقة غير مباشرة، من دون أن نغفل ظهور التعامل بالعملات المشفّرة رغم تحذيرات مصرف لبنان من هذه العمليّات. فصمد الشعب اللبنانيّ أمام الظلم، والمؤامرات الّتي تسلب منه رزقه وجنى عمره، فآمن أنّ في حنكته الاقتصاديّة، وحسن تدبيره... سيصبح يومًا ما شعبًا عظيمًا!
لا يمكن كذلك الأمر أن نتغاضى عن أزمة الموارد البشريّة، وأعداد الهجرة الهائلة الّتي زادت وتيرتها مع تخفيف إجراءات السفر في زمن جائحة كوفيد-١٩. وعلى رغم تعرّض القطاعات الخاصّة، وبوجهٍ خاصّ القطاعات السياحيّة لضربة أفقدت لبنان رونقه السياحيّ، نرى اليوم أنّ هذه القطاعات تحترف التأقلم. فمن جهة، برزت بعض المنتجات المحلّيّة البديلة كي تسدّ عجز تلك الّتي أصبحت مجرّد أحلام لدى معظم شرائح المجتمع اللبنانيّ، ومن جهة أُخرى عدّل أصحاب المؤسّسات والشركات ساعات العمل للحدّ من تقليص الرواتب، وصرف الأجور، الّتي أمست بحدّ ذاتها بدل أتعاب رمزيّ بسبب انخفاض قيمة الليرة اللبنانيّة المريع، ومعها القوّة الشرائيّة لدى الجميع. وكذلك، عاد المهاجر اللبنانيّ ليكون مصدرًا أساسيًّا في عيش أسرته، وتابع المواطن في البحث الكريم عن رغيف عيشه، الذي آمن أنّ في اكتسابه خبزه بعرق جبينه... سيصبح يومًا ما شعبًا عظيمًا!
ولن تستطيع سطور هذا المقال أن تختصر ملحمة صمود الشعب اللبنانيّ في جميع مجالات الحياة اليوميّة، فها هي المرأة اللبنانيّة بعد أن عانت استغلال السلطات الحاكمة واستخدامها كواجهة في بعض التشكيلات الحكوميّة، أبت إلّا أن تُبرهن على تجربة ناجحة في إدارة شؤون البلاد في أصعب الظروف. وفي أحوالٍ معيشيّة قاهرة، كانت القلب البصير في تدبير أمور بيتها، وابداع آلاف الطرق، وتخطّي صعاب تلاشي ما اعتادت عليه من وسائل خدماتيّة، وغيرها. كما برزت على الدوام بصوتها القويّ في مواجهة جميع أشكال التمييز الجنسيّة، والمجتمع الذكوريّ، والعنف الأُسريّ. وهي ما زالت تُبدع وتبتكر وتزرع البسمة على وجه كلّ فردٍ من أفراد الشعب، الذي آمن أنّ في جبروت أمّه وزوجته وصديقته وأخته وابنته... سيصبح يومًا ما شعبًا عظيمًا!
كما لن نغفل عن دور جنود الوطن، وهُم في أغلبيتهم جنود مجهولون، يبذلون جُلّ ما لديهم في سبيل الآخرين. ولا نقصد هنا من يسهرون على أمن حدوده وحسب، بل أولئك الّذين يجهدون ويكدّون في القطاع الخدماتيّ، والدفاع المدنيّ، والصليب الأحمر، وغيرهم. فهُم يتغاضون في معظمهم عن الهوّة الّتي تفصل بين متطلّبات الحياة الكريمة، وأجورهم الشهريّة الّتي لا تكفي إلّا لبضعة أيّام، إذ أثبتوا بالمثل الصالح كيف يتجسّد الحسّ الوطنيّ، وتقديم مصلحة البلد على المصالح الخاصّة، وتحمّل الضغوطات المعنويّة والمادّيّة من أجل الشعب، الذي آمن أنّ في حفاظه على عمادات بلده... سيصبح يومًا ما شعبًا عظيمًا!
ويبقى دور المجتمع المدنيّ، والجمعيّات غير الحكوميّة، وكلّ من ابتعدت السلطة عن التدخّل في شؤونه، «الدينامو» الفاعل في البلد. الدور الّذي يضمن على الدوام تقدّم المجتمع اللبنانيّ وازدهاره. فهو في كثير من الأحيان، عوّض عجز السلطة في إدارة البلاد، وأوجد حكومات الظلّ، والحلول البديلة، وعلا شأنه ليُصبح في بعض الأوقات أهمّ من الحكومة نفسها، وبلا أدنى شكّ أعمق مصداقيّة منها، فاستطاع بحسن عمله وشفافيّته، أن يكسب ثقة المجتمع الدوليّ، ويكون مصدر إنعاش لبلدٍ جريح، في ظلّ حكومات تتشكّل وتتفكّك، من دون أن تشفق على الشعب، الذي آمن أنّ في تنظيمه وتضامنه... سيصبح يومًا ما شعبًا عظيمًا!
هكذا، في هذه المراجعة لأحد أشدّ السنوات الّتي مرّت على لبنان ظلمةً، نرى أنّه على عكس باقي البلدان، يعيش البلد في شبه فراغ قياديّ. أمّا الشعب فيُبرهن في تجربة فريدة، أنّه في يومٍ من الأيّام كان من الأفضل أن يُترك بلدٌ من دون حكومة، ويعيش الفراغ القياديّ، على أن يختبر هذا النوع من الحوكمة، الّتي لا تعرف سوى تعميق الجراح، والمماطلة في الاستشفاء، إلى حين تصل بالشعب إلى ظلمة جهنّم من دون إرادته.
إنّ الشعب الّذي سار في الظلمة كان بأمسّ الحاجة إلى صوتٍ نبويّ يوقظه، وإلى قيادة حكيمة ترشده، وإلى مدبّر عبقريّ يُطعمه إلى حين يرى النور العظيم. وبالطبع، لا نجد هذه الأمور لدى الثالوث الحكوميّ اللبنانيّ، فهو بلا فائدة وبلا منفعة. وكان بالحريّ به أن يتبجّح بقدرة شعبه على إدارة بلدٍ من دون حكومة، بدل أن يتباهى بإدارة بلدٍ من دون موازنة... وقد برهنت هذه الطبقة السياسيّة أنّ الشعب أقوى من أيّ سلطة تحكمه، وأنّ يومًا ما سيتشتّت المتكبّرون في قلوبهم، ويُحَطّ السياسيّون عن عروشهم، ويُرفع اللبنانيّون واللبنانيّات في تواضعهم... فيصبحون حينها شعبًا عظيمًا!