لبنان وطن سيّد مسالم منتج حرّ مستقلّ
إنّ أحد أهمّ عوارض الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة هي حالة عدم الاستقرار المجتمعيّ. فقد أصبحت أخبار الجرائم متواترة إلى درجة قد نتأقلم مع ورودها وكأنّها جزء من الحالة الوجوديّة اللبنانيّة، وهذا بحدّ ذاته قد يصبح عاملًا كابحًا لإعادة قيام الدولة اللبنانيّة. ومن إحدى مسبّبات هذه الظاهرة، إتّساع الهوّة بين الأغنياء والفقراء، من دون خطط حقيقيّة وفاعلة تساعد في توزيع الثروة المتوازن والمُنصِف، الذي بدوره يضمن السلام والأمن في المجتمع اللبنانيّ.
عادةً ما تكون الطبقة الوسطى هي صمّام الأمان الحقيقيّ في توازن المجتمعات، لكنّ تلاشيها شيئًا فشيئًا في النسيج اللبنانيّ، يجعل من لبنان ساحة مواجهة بين الفقير المحتضر والغنيّ الذي يزداد ترفًا، لأنّ دولاره «الطازج» يجعله يعيش ملكًا. فآتون هذه المواجهة يغذّيه عادةً الشعور بالظلم، لأنّ الفقير يرى أنّ الخير لم يَعُد مشتركًا وعامًّا، بل محصورًا بطبقة تُساعدها الظروف الاقتصاديّة في ازدياد قوّتها باستغلال ثغرات المنظومة الحاليّة المتخبّطة.
بالطبع، الغنى ليس عيبًا، لكنّ بعض الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة تصوِّر كلّ غنيٍّ كمستغلّ، وكلّ فقير كمظلوم، لذلك علينا ألّا نقع في فخّ غضّ الطرف عن القضايا الاجتماعيّة، وألّا نتجاهل في المقابل طبيعة المجتمعات القائمة على التنوّع الطبقيّ الذي يُؤمِّن الحركة الاقتصاديّة السليمة. فما نبحث عنه اليوم في لبنان، هو الإضاءة على خطر سبق وأن تكرّر إقليميًّا وعالميًّا، عندما كان الشعور بالحرمان مقابل الجشع، الوقود الذي أشعل الحروب الأهليّة والإقليميّة، وزعزع استقرار المجتمعات. والسؤال الذي يُطرح هُنا في ظلّ البحث عن حلولٍ سياسيّة: هل من دورٍ فاعلٍ للاقتصاد في إعادة الاستقرار الاجتماعيّ ونموّه خصوصًا في لبنان؟
لا شكّ أنّ الوضع الاقتصاديّ المتدهور الذي يعيشه لبنان اليوم قد أتى نتيجة حقبات متعاقبة من الإهمال وانتشار الفساد، والإدارة الماليّة المتعثّرة، منذ اندلاع الحرب الأهليّة، إلى حين وصول الوضع الاقتصاديّ إلى حافّة الهاوية في أواخر العام ٢٠١٩، وعرف ضربتين قاضيتين، الأولى عالميّة بسبب جائحة كوفيد-19، والثانية محلّيّة بسبب انفجار مرفأ بيروت مع تدهورٍ في قيمة العملة المحلّيّة وارتفاع معدّلات التضخّم.
لن نُعيد سرد الأرقام المهولة التي ترسم لوحة لم يُخطئ من تنبّأ بأنّها ستكون أشبه بـ«جهنّم»، الأرقام والإحصاءات حفظناها عن ظهر قلب، لا بل قد تُصبح بلا معنى بعد أن تعايش معظم اللبنانيّين مع حقيقة «أنّ الأسوأ لم يأتِ بعد». فالدَين العامّ بأرقامٍ فلكيّة، وعجز الميزانيّة حدِّث ولا حرج، والتضخّم يجري بما لا يشتهيه المواطنون... هكذا أصبحت الأرقام معنويّةً أكثر منها حقائق اقتصاديّة يتوجّب دراستها وإيجاد الحلول وفقها.
ما زالت الحكومة اللبنانيّة ضائعة بين قطبي المساعدات الدوليّة والإصلاحات الداخليّة. فصندوق النقد الدوليّ يطلب الإصلاحات الماليّة والضريبيّة أوّلًا، والحكومة تحلم بالمساعدات كي تمدّ بأعمارها، وتنسى أنّها ورّثتنا كوارث اقتصاديّة وبنيويّة وإداريّة وبيئيّة وحياتيّة شلّت حلقة الاقتصاد الكلّيّ، وجرفت معها شريحة كبيرة من المواطنين إلى قاع الفقر وما بعد الفقر. كما أنّ احتمال إلغاء ديون لبنان لن يكون حلًّا قائمًا بذاته، إذ عليه أن يُصحَب بمساعداتٍ إنمائيّة تُعيد تأهيل أُسس الحركة الاقتصاديّة، من دون الوقوع في مأزق الاحتكارات والهدر كما كان سابقًا. وإلّا ستزداد نقمة المجتمع، لأنّ الهوّة ستتّسِع من دون تنمية اقتصاديّة متجانسة ومتماسكة، تحاول أن تُعيد التوازن الاقتصاديّ للمجتمع بوجهٍ يضمن استقراره المجتمعيّ، من دون الحاجة إلى ذكر ازدياد تعرفة الخدمات، والضرائب المُحتمل ارتفاعها في الموازنة الجديدة.
إنّ المعضلة اللبنانيّة الاقتصاديّة لا تقوم على الحالة الاجتماعيّة للمواطنين وحسب، بل يُضاف إليها وجود النازحين السوريّين الذي يجعل التوازن الديموغرافيّ في حالة من عدم الاستقرار. ومهما كانت الحالة الاقتصاديّة لدولةٍ ما متوازنة، لن تعرف العودة إلى الاستقرار الاقتصاديّ إلّا من خلال عمليات الإدماج المدروسة، أو التخطيط القصير والمتوسّط المدى. فكيف بالحري أن يتحمّل لبنان مثل هذا الواقع الاجتماعيّ-الاقتصاديّ الحرِج؟ فوجود أكثر من ربع المواطنين من النازحين سيكون له أثر كرة الثلج، إذ سترتفع تكاليف الإيجار، وتوفير الخدمات، وإصلاح البُنى التحتيّة. من بعدها، سيزداد بسببها معدّلات البطالة، خصوصًا مع الأزمة الحاصلة في القطاع غير الرسميّ، مما يترك حوالى نصف الشريحة المنتجة في انقطاع عن العمل أو عدم تأهيل أكاديميّ ومهنيّ.
إنّ هذا الوضع الاقتصاديّ المشوّه يجعل لبنان رهينة لهيمنة البلدان الأقوى اقتصاديًّا، ولا يُخفى على أحد أنّ منطقة الشرق الأوسط على صفيحٍ ساخن من التجاذبات الإقليميّة والدوليّة، وقد تستغلّ الفروقات الاقتصاديّة إلى إشعال فتيل حركات عدوانيّة قد تتمثّل في صراعات داخليّة ضمن أقنعة طائفيّة أو سياسيّة معيّنة.
هكذا، يتوضّح لنا أنّ اقتصاد لبنان وسلامه ضرورَتان حتميّتَان ومتلازمتَان ليكون «دولة» بالفعل وليس بالاسم فقط. بالطبع، لا نقصد هنا بسلامه في عدم اندلاع الحرب الأهليّة، أو انخراطه بأحد الحروب الإقليميّة، بل نقصد السلام الفاعل الذي يحقّق التنمية المستدامة. ولنا في انتهاء الحرب الأهليّة اللبنانيّة في العام 1990 العبرة، إذ أنّ وقف إطلاق النار، لم يؤدِّ إلى نموّ دولة حقيقيّة، فلم تُعالَج حتّى اللحظة مسبّبات الصراع، ولم تُشفَ جروحه تمامًا. كما أنّ تثبيت سعر صرف الدولار الأميركيّ مقابل الليرة اللبنانيّة أخفى السرطان الاقتصاديّ إلى حين تفشّى في الآونة الأخيرة. لذلك، نجد أنّ لبنان على غرار بلدانٍ أُخرى، مُهدّد باستئناف الصراع، أي ازدياد الفقر، والجوع وعدم المساواة، وهي وقود الحرب بامتياز، و«الغول» الذي يهدّد به أمراء الحرب الشعب مرارًا وتكرارًا.
على الرغم من أنّ معظم الحروب منذ نصف قرن كانت (داخليّة/ أهليّة)، إلّا أنّ الحرب ليست قدر هذه المجتمعات الحتميّ. فقد عرفت دولٌ الحروب، وخفّضت هذه الصراعات معدّلات النموّ بشكلٍ مؤلِم. لكنّها تعرف اليوم استقرارًا اجتماعيًّا ونموًّا اقتصاديًّا، لأنّ السلام الفاعل المبنيّ على العوامل الاقتصاديّة المتينة، التي تؤدّي إلى التنمية المستدامة، وفّر الأجواء السياسيّة السليمة. فهذه البيئة ستشجّع الشركات لدفع الأجور وتوليد المنافسة، وعدم الدخول في متاهات الرشوة والفساد، هذا ما يؤدّي إلى قدرة العمّال والموظّفين على تحمّل تكلفة العيش الأساسيّة، ويزيد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من إنتاجيّتهم.
إنّ هذه الحالة لا بدّ من أن تقود إلى مصالحة مع «الوطن» الذي يقدّم لا أساسيّات الحياة الكريمة وحسب، بل يساعد في ازدهار أبنائه وتفوّقهم. في هذا المناخ الإيجابيّ يميل المواطن إلى الالتزام بواجباته الضريبيّة ممّا يجعله مساهمًا فاعلًا في تقدّم بلده، وتتلاشى علاقة الاستغلال المتبادل مقابل المنفعة العامّة. وفي النهاية، تغيب شيئًا فشيئًا المسبّبات الأساسيّة لعدم الاستقرار الاجتماعيّ.
بالتالي، تولّد هذه الأمور تأثير كرة ثلج معاكساً لذلك الذي ذكرناه سابقًا، فاليُسر والرغد، سيضمنان ربحيّة أكبر للمؤسّسات في المستقبل، أي تعزيز التنمية المستدامة التي توفّر منتجات وخدمات أكثر فعّاليّة للمجتمع. لذلك، وعلى الرغم من الحالة الاقتصاديّة «الجهنّميّة»، نرجو أن يأتي ثلج الإصلاحات الاقتصاديّة ليُطفئ نار انعدام المعنى والمستقبل، والأمور ليست بمستحيلة. فقد أظهر الاقتصاد اللبنانيّ مرونة في فترات شهد فيها استقرارًا أمنيًّا جذب فيه السياح والمستثمرين، فبين العامين ٢٠٠٧-٢٠١٢، على سبيل المثال، كان الناتج المحلّيّ الإجماليّ إيجابيًّا، وكذلك تعافى العجز التجاريّ بواقع ١٢٪، وانخفضت نسبة الدين حوالى ٥٠٪.
تُشير هذه الأرقام الإيجابيّة إلى أنّ الانتعاش الاقتصاديّ ليس سرابًا، وتُساهم في إيجاد المناخات الاجتماعيّة والسياسيّة المستقرّة، وتنخفض على المدى الطويل الأرقام السلبيّة الكارثيّة التي يعرفها لبنان الآن. لكن، للوصول إلى هذه الأرقام الإيجابيّة لا بدّ من وجود انضباط ماليّ، وشفافيّة أكبر، وقد نحتاج إلى المراقبة والإشراف الخارجيّين بطريقة سليمة.
في العودة إلى الواقع الاقتصاديّ اللبنانيّ اليوم، نجد أنّ السياسة الماليّة التي ستُترجم في ضرائب أعلى أو أجور أقلّ، ستولّد موجة من العواقب التي لن ترحم المجتمع اللبنانيّ. في المقابل، ليس من مصلحة لبنان تبنّي سياسات انكماش في وقت الركود، لأنّها ستضرّ برفاهيّة المجتمع، وستعود سلبًا على الاقتصاد اللبنانيّ الريعيّ والخدماتيّ. وسنجد أنّه على المدى المتوسّط والبعيد، ستزيد مثل هذه السياسات من اضطرابات الاقتصاد الكلّيّ، بسبب الحدّ من الاستثمار في رؤوس الأموال، وتشغيل اليد العاملة، ولجم النموّ وتحرم المواطن الكفؤ من الحصول على الوظائف.
كذلك، يجب على السياسات الاقتصاديّة في لبنان أن تخرج من عباءة الحلول الكلاسيكيّة التي يعوّقها قدرة بعضهم على إيقافها لمصالحهم الشخصيّة. فالحلول الشاملة، أو تكبير الحلم ليُصبح مستحيلاً، هي بحدّ ذاتها استراتيجيّة خبيثة لقتل المبادرات والحلول في مهدها. لذلك، يمكن تقسيم المشاكل الاقتصاديّة إلى أُخرى أصغر، فتُصبح إدارتها أسهل، وتكون نتائجها ملموسة وأشدّ فعاليّة، خصوصًا في ميادين التعليم، والرعاية الصحيّة، إذا ما تمّ تصميم كلّ مشروع بحسب احتياجات المجتمعات المصغّرة، من دون تطبيق منظومات معدّة مسبقًا على كافّة أطياف المجتمع اللبنانيّ من دون تمييز.
حاليًّا، على من يرفعون الشعارات الإصلاحيّة والتغييريّة، أن يقدّموا لنا خططًا اقتصاديّة-اجتماعيّة متكاملة، تقوم على توطيد السلام المجتمعيّ الذي يجعل من تلك الحلول مستدامة ومثمرة. فلبنان، ما زال في مرحلة التعافي من آثار الحرب التي أنزفته. فعلى الاقتصاد أن يساهم في إيجاد تصوّر جديد للنسيج المجتمعيّ اللبنانيّ، تجد فيه الأقطاب السياسيّة مصالح «إيجابيّة» في توفير العوامل التي تُساهم في دفع عجلة النموّ الاقتصاديّ من إعادة هيكلة مؤسّسات الدولة، وتجزئة المشاكل الاقتصاديّة، وتقتنع أنّ مصالحها الضيّقة يمكن أن تتّسع في وطنٍ مستقرّ، لا في بلد مهدّد بإعادة اندلاع الصراعات «كل ما دقّ الكوز بالجرّة».
يحتاج لبنان اتّفاقًا وطنيًّا جديدًا، يحوّل اقتصاد الحرب، الذي ما زال إلى يومنا هذا (المولّدات الكهربائيّة، والسوق السوداء، والاحتكارات، إلخ...)، إلى اقتصاد سلام يهدف إلى إيجاد الحلول المستدامة، ويغيّر العقليّة التي تبني الخطط الاقتصاديّة على الاستغلال والتبعيّة، لتصبح خططًا تستند على التنمية والاستقلاليّة الماليّة.
كذلك، فعمليّة بناء سلام مجتمعيّ لا تكون على حساب طرف أو شريحة مجتمعيّة، لأنّ التمايز عامل أساسيّ من الديناميكيّة الاقتصاديّة في كلّ مجتمع. لذلك، فإنّ من يُريد أن «يستعيد الدولة» لا يسعى إلى المساواة العمياء، بل إلى الإنصاف ضمن مشروعٍ حرّ يعزّز المبادرات ويدعم القوّة الاقتصاديّة الناجحة.
أخيرًا، إذا أردنا «دولة» علينا أن نربط الاقتصاد بالسلام الفاعل والعكس. وما يضمن سلامة هذا الرابط وصلابته، توافر نظام قضائيّ يضمن لكلّ مواطن حقّه العادل والمُنصف في الاستفادة من الثروات، وكذلك دوره الفاعل في مواطنيّة خَلوقة تحترم الآخر. وأنّ الاختيار بين البقاء في هذا الجهنّم المصطنع أو الانتقال إلى نعيم السلام الفاعل والمُنتِج، ما زال شأنًا لبنانيًّا إن أراد أن يكون «وطنًا سيّدًا حرًّا مستقلًّا» كما آمن في مقدّمة دستوره.