من يُنجد القطاعات الخاصّة كي تُنجدنا؟
في تشرين الأوّل ٢٠١٩ بعد اندلاع الثورة في لبنان، تعرّض البلد لِما يُعرف بالتوقّف المفاجئ بحسب مصطلحات التحليل الماليّ، وهو بالتعريف: «انخفاض حادّ في تدفّق رؤوس الأموال في الاقتصاد الوطنيّ، وعادةً ما يُرافق بالركود الاقتصاديّ والإصلاحات في السوق». يحدث التوقّف المفاجئ عندما تتوقّف تدفّقات رؤوس الأموال الخارجيّة وتترافق مع استثمار المواطنين في الخارج. لذلك، تكون الأنظمة الاقتصاديّة المفتوحة والصغيرة نوعًا ما (كالنظام الاقتصاديّ اللبنانيّ) ضعيفة جدًّا عند حدوث هذين العاملين معًا.
قام المستثمرون لسنين طويلة بتلبية حاجات الحكومة اللبنانيّة التمويليّة، قبل حدوث هذا التوقّف المفاجئ، وذلك عن طريق النظام المصرفيّ السائد في لبنان. إذ ساهم معظم المستثمرين والمودعين الّذين رغبوا في وضع مدّخراتهم في بلدهم، بالإضافة إلى المغتربين والمودعين الإقليميّين، في جعل مؤشّر صافي التدفّقات المودعة بالعملات الأجنبيّة إيجابيًّا لسنوات عدة.
بين العامين ٢٠٠٩-٢٠١٩، كانت الموازنة العامّة والميزان التجاريّ يُشيران إلى عجزٍ بمتوسّط مقداره -١١,١٪، بالإضافة إلى ناتج عجز متراكم في إجمالي الناتج القوميّ بمقدار ١٥٠٪ في العام ٢٠١٧، تعكس هذه الأرقام عجزًا حقيقيًّا مقداره -٢٢,٦٪ بالمقارنة مع ١٥٪ في العام ٢٠٠٧. هذا ما يشرح بطريقة واضحة أنّ العجوزات قد مُوِّلت من تدفّق الودائع عبر مصرف لبنان والنظام المصرفيّ.
أمّا بعد أحداث ٢٠١٩، هرع المواطنون لسحب ودائعهم من المصارف إثر فقدانهم الثقة بها، وبلغ ردّ فعل النظام المصرفيّ ذروته في سياسة التوقّف المفاجئ والحجز على الودائع، الّتي بدورها فضحت هشاشة النظام المصرفيّ اللبنانيّ، الّذي انهار بدوره نتيجة التفاعل المتبادل بين قطاعات الاقتصاد المحلّيّة الأربعة (المصارف الخاصّة، ومصرف لبنان، والحكومة، والقطاعات الخاصّة) حيث إنّ ترابطها جعل أيّ أمرٍ يطرأ على إحداها يؤثّر على غيرها.
بعد فترة ممّا حصل، حاولت المصارف خفض ديون الحكومة، حيث كانت تشكّل أكثر من ٥٠٪ من الدين العامّ، الأمر الّذي يمثّل استثمارًا بهامش مجازفة عالٍ جدًّا. يشرح الشكل المرفق التأثير المتبادل بين القطاعات الاقتصاديّة الأربع. حيث نجد أنّ القطاعات الخاصّة هي المعطى الأساسيّ في دائرة القطاعات الاقتصاديّة، وهي اليوم مهملةٌ ولا تُدرج في اهتمامات الخطط الإصلاحيّة الّتي تركّز على الحكومة، والّتي تمثّل المستفيد الأكبر في ظلّ تأثير سياساتها غير معلومة الوجهة على القطاعات الاستثماريّة الخاصّة الّتي تتحمّل نتائج إخفاقات السلطة، وجشع القطّاع المصرفي الّذي لم يخفّض معدّل الفوائد على هذه القطاعات، وقراراته الجائرة الّتي كان آخرها منع الشركات من تحويل الرواتب وإجبارها على إيداعها نقدًا، ممّا ولّد أزمة حقيقيّة، لأنّ هذه القطاعات لن تستطيع الاستفادة من إيداعاتها السابقة.
هكذا، أصبحت لدينا أزمة سيولة لا بالعملات الأجنبيّة، بل بالليرة اللبنانيّة أيضًا، علمًا أنّ أزمة السيولة لأمرٌ متوقّع حدوثه في أيّ أزمة ماليّة، بسبب عدم إمكانيّة تحويل الأصول المتوافرة (الملاءة) إلى سيولة. وقد بدأ مؤشّر الأصول القابلة للتسييل بتراجع من ٥,٦٪ في العام ٢٠١٧ ليصبح أكثر من ٢٥٪ في العام ٢٠١٩، وفي المقابل لم تسدّد الدولة ديونها إلى القطّاع المصرفيّ. وهذا ما سيؤدّي دومًا إلى عجز أعمق، طالما أنّ الحكومة والمصارف تتّبع مبدأ (خلّيها على الله)، الأمر الّذي يقودنا إلى ركودٍ أعظم بفضل ازدياد مقدار العجز، وجفاف السيولة الماليّة، وسياسات حجز أشدّ على الودائع الصادرة.
بالإضافة إلى هشاشة النظام الاقتصاديّ في لبنان، بقي ثقل عجز ميزان التجارة أمرًا جوهريًّا، خصوصًا مع استمرار سياسة دعم المحروقات والمواد الأوليّة، ممّا وضع الحكومة والمصرف المركزيّ تحت ضغط الشارع، ناهيك عن مشكلة الكهرباء الّتي لا يمكن المساس بها (إلى هذه اللحظة).
كخطوة أولى، نجد أنّ لدى الحكومة اللبنانيّة والقطاع المصرفيّ حلولًا يمكنها أن تساهم في تخفيف وطأة الأزمة الاقتصاديّة الراهنة:
ـ أولًا، الحلّ سياسيّ مناسب، يسمح بتطوير مشروع إصلاح المشاكل الماليّة والاقتصاديّة وتطوير أنظمتها. بوضع سياسات فعّالة وسريعة التنفيذ، من أجل فصل الدين الحكوميّ بعزله عن مشكلة السيولة كي يمهّد الطريق نحو عمليّة إعادة الهيكلة.
ـ ثانيًا، تكوين حكومة جديدة من شأنها أن تساعد في حلّ الحاجّة الملحّة إلى السيولة الخارجيّة المباشرة نحو القطّاع المصرفيّ، وهذا بدوره سيؤدّي إلى فكّ التجميد على الودائع وإعادة الثقة بالقطّاع المصرفيّ.
ـ ثالثًا، حل أزمة السيولة ودعم القطاعات المنتجة. ففي لبنان، وإن كان دور المصرف المركزيّ في الحالات العاديّة المساعدة في توفير السيولة ومساندة المصارف التجاريّة، نجد أنّ السيولة الخارجيّة تستبدل دور المصرف المركزيّ، حتّى ولو أنّ هذا الأخير يحاول الحفاظ على الاحتياطيّ من العملات الأجنبيّة، لكن في الأزمة الحاليّة يتبخّر هذا الاحتياطيّ الإلزاميّ بسبب دعم المحروقات والمواد الأُخرى المهمّة.
إنّ مبدأ اللاخطّة واللاتوجّه الّذي تعتمده الحكومة سيُبعدنا أكثر وأكثر عن إعادة الثقة في النظام المصرفيّ اللبنانيّ كما ذكرنا سابقًا، وهذا الأمر مرتبط ارتباطًا عضويًّا بتشكيل الحكومة المنتظرة الّتي ناهز غيابها نحو سنة، تلك الحكومة الّتي نأمل أن تتميّز عن سابقاتها، فلا تأتي فارغة اليدين، بل تحمل موازنة مدروسة تُعيد تأهيل النظام الاقتصاديّ والماليّ للبلد.
لنقوم بنجدة بلدنا، يجب إعادة هيكلة دين الشركات والقطاعات الخاصّة لكي تستطيع الاستثمار، فهي عاجزة عن إعادة الدخول إلى معترك الأسواق في ظلّ الفوائد المجحفة الّتي ما زالت تفرضها عليها المصارف التجاريّة، في حين أنّها قد تقوم بالدور الّذي يُعيد مقوّمات الحياة للمودع، بما توفّره من فرص عمل جديدة ومتجدّدة، وزيادة في الانتاجيّة، والتغلّب على معوّقات النُظم الريعيّة الّتي عهدناها. وبذلك، تنقذ الحكومة في سعيها إلى تصويب أنظمتها الاقتصاديّة والماليّة.