نرجسيّة التميُّز ومتلازمة التبعيّة القاتلة
تمّ الحديث في أيّ دولة عن الموازنات التي توضع لتحقيق فائض في خزينة الدولة أو تخفيف العجز بحسب خططٍ أكانت متوسّطة الأمد أو طويلة. نتحدّث هنا عن الموازنة في «الدولة» بحسب مفهومها العام، لكن بما أنّ اللبنانيّ يهوى التفرّد والتميّز، فدولته عكست شخصيّته التي تميل إلى التبعيّة السياسيّة ومباركة المحاولات الجشعة لدى حفنة من المستفيدين على حساب الكفايات التقنيّة والاقتصاديّة والاستراتيجيّة، التي لم يُتَح لها دور في بناء دولتها.
في هيكليّات الدول «الاعتياديّة» غير المتميّزة، يستطيع أيّ فرد العيش ليكون منتجًا ويسدّد الضرائب المترتّبة عليه وفق أسس تقوم على الحقوق والواجبات، وإنّ أهمّ دور تؤدّيه الدولة هو رعاية مواطنيها، لذا تسعى لوضع الخطط استنادًا الى مقوّماتها الاقتصاديّة، وتسهر على المراقبة الماليّة والإداريّة. أمّا في دولتنا «المتميّزة»، فيتفرّد بعض سياسيّيها بالدفع لإقرار أيّ موازنة كانت لا من باب حرصهم على صورة الدولة وحسب، بل كونهم يعدّون أنفسهم من طبقة الخبراء في الشؤون الماليّة والاقتصاديّة، بعد أن ساهموا في وصولنا إلى دولة مفلسة مدمّرة اقتصاديًّا، لا بل تذرّع أحدهم بقدرته على تأسيس دولة قويّة من غير موازنة، ووصلت نرجسيّته إلى تصدير نظريّته إلى العالم في المحافل الدوليّة.
لا تكمن المشكلة في الموازنة نفسها إذ تبقى أرقامًا دفتريّة، بل تكمن في تركيبتها، فما مداخيل الدولة الضريبيّة في ظلّ اقتصاد مدمّر من شركاته حتّى أفراده؟ لأنّ مدخول الموازنة السنويّة على هذه الحالة يأتي بليراتٍ تُطبع من دون أيّ تخطيط، فقط لتسجّل زيادة في العجز في نهاية كلّ سنة.
وهذا العجز وهميّ لأنّه نتيجة موازنة وهميّة في بلدٍ يعيش وَهم «التميّز»، موازنته ليست سوى أرقام مصطنعة ليس لها غاية إلّا تحريك المجموعات بشعبويّة عهدناها، وإعطاء بعض المواطنين ما يُغذّي «الأنا» بنرجسيّة تنجذب نحو صورة الإصلاح ومحاربة الفساد المتبعثرة، فدولته، التي هي على صورته، بنَت خططها الاقتصاديّة على أوهام.
إذا غُصنا قليلًا في أعماق المشكلة سنجد أنّ حالة التميّز اللبنانيّ تكمن في أنّ أهداف موازناته سياسيّة لا اقتصاديّة أو تنمويّة. حيث إنّ الخطاب السياسيّ يسوِّغ العمل الاقتصاديّ لا العكس، فأرقام المداخيل والنفقات، أو زيادة الدين العامّ لتمويل العجز تقصد جيوب السياسيّين المستفيدين لا حقوق المواطن الذي يُغرَّر به، علمًا أنّ تستير عدم إقرار الموازنة يتمّ لدوافع سياسيّة، من دون أن يَعي هذا المواطن أنّ الدول الصالحة تُقرّ الموازنات العموميّة وتضعها في عهدة الأكفياء ضمن قواعد الشفافيّة لتصبّ لمصلحته ورخائه، وتطوّره، والأهمّ تَحرّره من التبعيّة.
إنّ أُسس التخطيط الاقتصاديّ للدول تقوم على معايير اقتصاديّة - سياسيّة في وضع موازنة واضحة في مداخيلها ومصاريفها، وتسنّ القوانين التي تساعد على تطبيقها وتحقيق أهدافها. فتبحث الخطّة الاقتصاديّة عن مداخيل وفق تقديراتها للتأثيرات الضريبيّة المعتمدة بحسب طبيعة الخطّة ونوعها من ناحية التوسّع الاقتصاديّ والمحافظة على العدالة الضريبيّة، من خلال توزيع ضريبيّ عادل ونسبيّ على كل الفئات الاقتصاديّة والاجتماعيّة في البلد. كذلك يُبحث في مصاريف الموازنة من حيث طبيعة الانفاق وحجمه على المشاريع المنتجة ومشاريع البنية التحتيّة وأيضًا على خطط الاصلاح والتطوير الإداريّ التي تعالج تضخّم الإنفاق في الإدارة وسبل معالجته عبر إعادة الهيكلة وتطوير قوانين بعض المؤسّسات والاستثمار.
بالطبع، تنطبق هذه الأسس الاقتصاديّة البداهيّة على الدول «العاديّة» لا المتميّزة، إذ تشغل موضوعات العجز في الموازنة ورصيد ميزان المدفوعات أهميّة متزايدة في النقاشات والسياسات الاقتصاديّة الكلّية. ورغم أنّ الروابط بين هذه الأرصدة وعلاقتها بالنشاط الاقتصادي لا تظهر دائمًا في وجهٍ واضح، لكنّها غالبًا ما تستند إلى ترابط تصرّفات القطاعات الاقتصاديّة التمويليّة المختلفة.
وأين ميزان المدفوعات في كلّ هذه الأمور؟ إنّ ميزان المدفوعات بالتعريف هو سجلّ محاسبيّ وماليّ تُدوَّن فيه كافة الإجراءات الاقتصاديّة المتعلّقة بالدول، ولكلّ دولة من دول العالم ميزان مدفوعات خاصّ بها، تتعامل به مع الدول الأخرى، لتسجيل العمليّات الماليّة التي تتمّ بينها. ويعتمد ميزان المدفوعات على تسجيل كافة المبالغ النقديّة التي تُدفع، سواء لشراء خدمة أم سلعة ما، وأيضًا يحتوي على التفاصيل المتعلّقة برأس المال، والمصروفات الأخرى.
لكن، يأبى بعض اللبنانيّين أن يكونوا على صورة بقية الدول «المستورة»، فابتكر أحفاد مَن أوجدوا الحرف، بدعة التلاعب بالأرقام، لكي لا يُشير ميزان المدفوعات إلى رقم سلبيّ يدلّ الى أنّ مسار الدولة ينحدر نحو الإفلاس، لأنّ ذلك عامل آخر يجرح «الأنا»، لذلك نجده يكذب الكذبة ويصدّقها في إعداده لنظام المدفوعات لسنته الماليّة.
عرف العام ٢٠١١ التحوّل السلبيّ لميزان المدفوعات، فحينها راح يسجّل عجزًا متواصلًا. هذا لم يحرّك السلطة لتقوم بأيّ إجراء إنقاذيّ ووقائيّ لكي لا تصل بنا الحالة إلى ما نحن عليه، خصوصًا أن الاقتصاد لبنانيّ «مدولَر» ومتواضع إذ يعتمد كثيرًا على التحويلات الخارجيّة، وتثبيت سعر الصرف المـُكلف جدًّا. وبردّة فعل نرجسيّة، وحفاظًا على صورة الأداء الاقتصاديّ المُبهِر للسلطة، أعمَت الدولة، بمساعدة مصرف لبنان، المواطنين والرأي العامّ بتعديل أرقام مؤشّر ميزان المدفوعات فأضافت أرقامًا متعلّقة بسندات اليوروبوندز التي بحوزته رغم أنّها لا تُمثّل أي سيولة حقيقيّة بالعملة الأجنبيّة. وبما أنّ هذا الإجراء حسّن الصورة لا المضمون، أجرى مصرف لبنان عمليّة تجميل أخرى، ففي العام ٢٠١٦ بواسطة الهندسات الماليّة التي مكّنته من تعديل المؤشر السلبيّ، إذ سجّل فائضًا في ميزان المدفوعات لسنة واحدة فقط. لكن كان ذلك على حساب سحب سيولة المصارف التجاريّة في الخارج وإيداعها في مصرف لبنان تحت مغريات الفائدة العالية وطمعًا بجَني الأرباح الهائلة.
إنّ ثقة النرجسيّ بذاته ضعيفة، إذ نراه دومًا يلجأ إلى عمليّات التجميل حفاظًا على صورته، فأيّ إجراء تجميليّ لا يستطيع أن يُخفي كلّ العيوب، ولا يستطيع الهروب من التأثيرات الجانبيّة مهما ارتفعت تكلفته. وللأسف، فإنّ ما أجراه مصرف لبنان كان مُكلفًا جدًّا لا سيّما أنّه كان مموّلًا من محفظة المودِع اللبناني. كما أنّ معظم المصارف التجاريّة تعاملت باستهتار بهذه الأموال المودَعة، وخاطرت بها برعونة طمعًا بجَني أرباح أكبر لمصلحتها. ولأنّ نتائج أيّ عمليّة تجميل هي مؤقّتة، عاد ميزان المدفوعات ليسجّل عجوزاتٍ كبيرة في السنين المتتالية نتيجة استعمال أرباح الهندسات الماليّة لشراء الدولارات وتحويلها إلى الخارج.
كما أنّ النظرة النرجسيّة ضيّقة الأفق لأنّها تنطوي على الذات، ولا ترى الصورة الكاملة. إذ تجعلنا هذه النظرة نرى أنّ عجز الميزان التجاريّ قد انخفض إلى النصف عام ٢٠٢٠، من دون أن نعي أنّ ذلك نتيجة ارتفاع أسعار السلع المستوردة، وانخفاض الاستيراد نظرًا لتدهور القوّة الشرائيّة لدى المواطن بالتوازي مع انهيار قيمة عملته الوطنيّة. وفي تركيزه على هذا الجانب الإيجابيّ الوهميّ، تعامى أيضًا عن رؤية تضاعف عجز مؤشر ميزان المدفوعات خلال الفترة نفسها، لخروج كميّات كبيرة من الدولارات من البلد رغم الحجز غير المُعلن على أموال المودعين.
أخيرًا، إنّ هامش المناورة لدى أيّ حكومة في شأن السياسات الاقتصاديّة محدود نسبيًّا، أمّا في لبنان فهو معدوم، أقلّه في شأن توسيع الصادرات، والمعايير التي تهدف إلى الحدّ من كميّة السلع المستوردة، فالبحث عن توازن خارجيّ ينطوي على تحكّم ضيّق بعجز الموازنة. يعتمد تحقيق الأهداف على الصعيد الوطنيّ، كالحدّ من البطالة، في وجهٍ رئيسيّ على السياسات المتّبعة في دولٍ أخرى أو وفق التدابير الهيكليّة التي لا تُلمَس نتائجها إلّا على المدى المتوسّط والبعيد. لذلك، نظرًا لعدم وجود مراجعات على مستوى الصادرات والواردات، والآثار النفسيّة غير المتوقعة على سوق صرف وتدهور قيمة الليرة اللبنانيّة المتسارع مقارنة مع العملات الأجنبيّة التي يتمّ التعامل بها في عمليّات الاستيراد، فمن واجب الحكومة تحديد موازنة دقيقة بإعطائها الهوامش الكافية.
في الخلاصة، نجد أنّ المواطن المتماهي في تبعيّته أصبح بدوره غارقًا في نرجسيّته أيضًا، والصورة التي تُغذّي «الأنا» الطائفيّ، أو السياسيّ، أو الطبقيّ ما هي سوى وهم يُعتّم على تصرّفات زعيمه الذي ما زال يستفيد من الاستنسابيّة بتحويل أمواله إلى الخارج، على حساب «التابع» الذي يضحّي يومًا بعد الآخر بنمط معيشته، و«شقاء عمره»، ومستقبل أولاده. فالصورة الحقيقيّة «من دون أي تجميل» هي ازدياد معدّلات تصدير لبنان للموارد البشريّة والعقول المفكِّرة والقوى الفتيّة، لتزيد من عجز اللبنانيّ وشيخوخته، بدلًا من الصادرات الانتاجيّة، ليستمرّ دائمًا أبدًا في الاعتماد على تحويلات المغتربين، بضخّ الدولارات المستمرّ، الأمر الذي يضمن مصالح الزعيم وبقائه في منصبه، عوضًا عن مصالح المواطن وازدهاره، في دولة «متميّزة» لا تُشبه أيّ دولة أخرى في قباحتها إذ أنّ النرجسيّة عَمى طوعيّ، لا في المنتجات الماديّة.