هل نَصِف عمليّة تصحيح الأجور "عبثيّة"؟
يحتلّ لبنان المرتبة الرابعة في العالم من حيث المديونيّة بعد اليابان واليونان. فقُدِّر الدين العامّ بنحو ١٥٤,٤٪ عام ٢٠٢٠، وفقًا لأرقام صندوق النقد الدوليّ المحدّثة في نيسان ٢٠٢١. كذلك بلغ عجز الموازنة العامة للدولة المرتفع مقدار -٧,٧٪، وسُجّل عجز حساب جارٍ عند -١٤,٣٪ من الناتج المحلّيّ الإجماليّ، وقدَّر صندوق النقد الدوليّ التضخّم عند مستوى قياسيّ بلغ ٨٨,٢٪ عام ٢٠٢٠. وفي ظلّ هذه المؤشّرات الكارثيّة تتطلّع الحكومة اللبنانيّة الى حلول لسدّ الهوّة بين المواطن والحياة الكريمة. وتبدأ هذه الإجراءات «الحكيمة» من توفير ثمن كيس ربطة الخبز، إلى اقتراحات زيادة الأجور. وقد نخشى على المواطن أن تكون هذه الإجراءات عبثيّة، على شاكلة الحلول السابقة من البطاقة التمويليّة المتعثّرة، إلى رفع الدعم عن المحروقات والأدوية، من دون أن ننسى زرع البطاطا على الشرفات، وغيرها من مسلسلنا المضحك المبكيّ.
بالطبع، جميعنا يحلم أن تُزاد أجورنا، وأن نعيش في مجتمع منصف وعادل، لكنّ تحقيق تلك الأحلام يتطلّب تنفيذ إصلاحاتٍ ماليّة، وضريبيّة، واجتماعيّة، وإداريّة طال انتظارها من الحكومات المتعاقبة. في هذه الأثناء، يقاوم مصرف لبنان وقطاعه المصرفيّ خطّة التعافي الماليّ التي أقرّتها الحكومة اللبنانيّة في نيسان ٢٠٢٠، والتي تهدف إلى تحميل عبء كبير من خسائر النظام الماليّ على المصارف والمودعين الكبار. وبالتالي، يبقى أصحاب الدخل المحدود الحلقة الأضعف في كل المعادلات. وبعيدًا من الأحلام الورديّة، يُطرح السؤال: كيف ستجد الحكومة المصادر لتمويل هذه الأجور؟ أوليست زيادة الأجور ستزيد من مؤشّرات التضخّم الحاليّة؟
قبل إغراق البلد في فيضان التضخّم بـ»شخطة قلم» تُضيف أصفارًا وكأنّها بلا قيمة، يجب التذكير بركائز القطاعات الاقتصاديّة في لبنان وعلاقتها ببقية قطاعات الدولة، وعرض مقتضب للحيثيّات الاقتصاديّة الّتي تتناول الحدّ الأدنى للأجور، لكي نعرف على «أيّ بَرّ سنرسو» يومًا ما. إذ تنقسم القطاعات الاقتصاديّة في لبنان إلى:
أـ الزراعة: إنّ القطاع الزراعيّ ما زال فتيًّا. إذ يساهم، بحسب إحصائيّات البنك الدوليّ، بنسبة ٣,١٪ فقط من الناتج المحلّيّ الإجماليّ، وتوظيف ١٣,٤٪ من القوى العاملة في البلاد.
ب ـ الصناعة: تمثّل الصناعة ما يقارب الـ ١٢,٨٪ من الناتج المحلّيّ الإجماليّ، وتوظّف ٢٢,٣٪ من السكّان العاملين. يهيمن على هذا القطاع تصنيع المنتجات الزراعيّة، والمعادن، والأثاث، والمنتجات المصنّعة الأُخرى، وثمّة أكثر من ٤٧٠٠ شركة صناعيّة في لبنان.
ج ـ الخدمات: إنّ هذا القطاع هو القطاع المهيمن على الاقتصاد اللبنانيّ، حيث يمثّل ٧٨,٨٪ من الناتج المحلّيّ الإجماليّ للبلاد ويعمل فيه ٦٤,٣٪ من السكّان العاملين.
د ـ المصارف: كان القطاع المصرفيّ العمود الفقريّ للاقتصاد، لكنّه يمر في أزمة كبيرة. لم يقدّم النشاط المصرفيّ، حتّى عندما كان مستدامًا ومربحًا، دعمًا حقيقيًّا للقطاع الخاصّ، لأنّ معظم السيولة من المصارف التجاريّة تُستخدم لتمويل الدين العامّ.
ه ـ السياحة: تمثّل السياحة ما يقارب ٢٠٪ من الناتج المحلّيّ الإجماليّ، وتوظّف نحو ١٨٪ من السكّان العاملين. ويعاني القطاع حاليًّا من أزمة اقتصاديّة وسياسيّة خطيرة تمر فيها البلاد.
كذلك، قدّرت منظمة «الإسكوا» عقب انفجار مرفأ بيروت عام ٢٠٢٠، أنّ أكثر من ٥٥٪ من اللبنانيّين يعيشون في الفقر، ويكافحون من أجل تلبية حاجاتهم الأساسيّة، مقابل نحو ٢٨٪ عام ٢٠١٩. أمّا من يعيش تحت عتبة الفقر المدقع، فقد تضاعف عددهم ثلاث مرّات خلال سنة واحدة، إلى ما يقارب ٢٣٪ عام ٢٠٢٠، حيث يعتبر ٢,٧ مليون شخص من الفقراء في لبنان، أي يكسبون أقلّ من ١٤ دولارًا أميركيًّا في اليوم. وتؤكّد «الإسكوا» أهمّيّة التكافل الاجتماعيّ في لبنان حاليًّا.
بعد أن عرضنا واقع القطاعات الاقتصاديّة المرير، من دون أن نغفل أثر جائحة كوفيد-١٩أيضًا، يجب أن نذكّر أنّ القطاع العامّ بشقّه الخدميّ والدفاعيّ يعتمد على مصادره الماليّة من القطاعات الاقتصاديّة المنتجة بواسطة ما يحصّله من ضرائب، كما هي الحال في أيّ دولة سليمة. لكن، بما أنّ القطاع المنتج معطّل، تبقى المعضلة الأكبر في طريقة تأمين زيادة أجور من يخدمون البلد، والمتقاعدين، وحُماة الوطن، ويتحمّلون وزر حياة معيشيّة تزداد مرارةً. نجد أنّ القطاعات كافّة في أزمة كبيرة، كما أنّ الانتاجيّة لا تصل إلى مستويات تزيد من الدخل الوطنيّ. لذلك، ولأنّ زيادة الأجور نتيجة التضخّم وغلاء المعيشة حقٌّ طبيعيّ ومشروع، لكن ّتداعيّاته الاقتصاديّة قد تكون أسوأ بكثير إن كانت بطريقة عبثيّة، وستزيد من عمق الأزمات على المدى البعيد.
لذلك، علينا تناول موضوع تصحيح الأجور برويّة ودراية. تاريخيًّا، كانت نيوزيلّندا أوّل البلدان الّتي أدخلت مفهوم الحدّ الأدنى للأجور إلى قوانينها في العام ١٨٩٤، تلتها أستراليا (ولاية فيكتوريا حينها) بعد سنتين، ثمّ المملكة المتّحدة في العام ١٩٠٩. وإزداد عدد البلدان الّتي تتبنّى هذه المنظومة بنحو ملحوظ بعد الحرب العالميّة الثانية.
تدعو مقدّمة دستور منظّمة العمل الدوليّة (الصادر عام ١٩١٩) إلى تحسين عاجلٍ في ظروف العمل استنادًا إلى المبدأ القائل: «السلام الشامل والدائم لا يمكن أن يؤسّس إلّا على أُسس العدالة الاجتماعيّة». وقد خصّ هذا الدستور مسألة ضمان الأجر المعيشيّ الّذي بدوره يوفّر الظروف الحياتيّة الكريمة. كما أكّد إعلان فيلادلفيا الصادر عن منظّمة العمل الدوليّة العام ١٩٤٤، أهمّيّة وجود «حدّ أدنى للأجور لمن لديهم وظائف ويحتاجون إلى هذا النوع من الضمانة». وهذا ما عاد وشدّد عليه إعلان منظّمة العمل الدوليّة الصادر العام ٢٠٠٨ في شأن العدالة الاجتماعيّة من أجل عولمة عادلة.
لكن، في ما يخصّ تصحيح الأجور أو زيادتها بصريح العبارة، ثمّة مدرستان فكريّتان رئيسيّتان متعارضتان بطريقة مستمرّة. إذ تقدّر مدرسة «كينز» الاقتصاديّة، أنّ ارتفاع الأجور، عن طريق إعادة تقويم القوّة الشرائيّة لدى الموظّفين (الّذين لديهم ميل هامشيّ للاستهلاك مرتفع جدًّا)، من شأنه أن يحفّز الاستهلاك، والطلب الداخليّ، وبالتالي التوظيف.
على العكس من ذلك، تدافع المدرسة الاقتصاديّة الكلاسيكيّة عن فكرة تقوم على أنّ توزيع الأجور يجب أن يكون ملائمًا لرأس المال حتّى لا تكون نتائجه سلبيّة على عمليّة الاقتصاد الكلّيّ، لكي لا يفتقر أصحاب رأس المال إلى الوسائل الماليّة والحوافز الاستثماريّة. بينما يرى أصحاب المدرسة الكلاسيكيّة أنّ زيادة الأجور، من خلال إجبار أصحاب العمل على توزيعها على الموظّفين بما يتجاوز إنتاجيّتهم الهامشيّة، من شأنها إبطاء عمليّة التوظيف، عندما يصبح دفع أجور تفوق مداخيل صاحب العمل الأساسيّة أمرًا جائرًا.
للتذكير، فإنّ الحدّ الأدنى للأجور بالتعريف هو: المقابل المادّيّ الّذي يُطالَب به ربّ العمل ليوزّعه على موظّفيه، مقابل العمل الّذي يؤدّونه، ضمن فترة زمنيّة معيّنة، وهذا ما تعترف به اليوم أكثر من ٩٠٪ من الدول الأعضاء في منظّمة العمل الدوليّة. وهي بذلك، تضمن حماية العمّال من الأجور غير العادلة، وتقاسم مردود الإنتاج للجميع بنحو عادلٍ ومنصف، وأيضًا، الحدّ الأدنى من التعويض لجميع العاملين لحمايتهم من خطر البطالة أو الطرد الجائر. كما يُنظر إلى الحدّ الأدنى للأجور على أنّه أحد المكوّنات الأساسيّة للسياسات الهادفة إلى القضاء على الفقر، والحدّ من عدم المساواة بين الرجال والنساء.
هكذا، على منظومة الحدّ الأدنى للأجور أن تعزّز وتكمّل السياسات الاجتماعيّة والتوظيفيّة في أيّ بلد. على سبيل المثال، تعرف جميع الدول الأوروبيّة منظومات للحدّ الأدنى للأجور، ويتمّ تحديدها عن طريق التفاوض الجماعيّ، أو القوانين التشريعيّة، على أن تغطّي جزءًا من القطاع الخاصّ. أمّا في بعض الدول العربيّة، مثل البحرين، وقطر، والإمارات العربيّة المتّحدة، فلا يوجد منظومات للحدّ الأدنى تحكم علاقة أرباب العمل مع موظّفيهم.
بما أنّ الحدّ الأدنى للأجور يزيد من تكاليف اليدّ العاملة في الساعة الواحدة، فمن الممكن أن يؤدّي فرض سياسة زيادته إلى دفع أصحاب العمل إلى تقليل الساعات بدلًا من خفض عدد الوظائف، أو الاثنين معًا. لذلك يبحث علم الاقتصاد عن تقليل الآثار الكلّيّة لهذه المعادلة، بما يضمن الحدّ من الفقر من جهة، وتخفيف الأثر السلبيّ للأجور المنخفضة من جهة أُخرى.
تكمن إحدى معضلات رفع الأجور في لبنان لا في آثارها على التضخّم الاقتصاديّ وحسب، بل كونه غير عادل ومنصف. في الواقع، يمكن للشركات الكبيرة الّتي تتمتّع بالقوّة السوقيّة زيادة أجور موظّفيها من دون أن «يرفّ لها رمش»، حيث إنّها تحمّل التكاليف الإضافيّة على المستهلك. من جانبها، نرى أنّ الشركات الصغيرة والمتوسّطة، التي أضعفتها الأزمة الاقتصاديّة الراهنة بالفعل، والّتي تشكّل غالبيّة الشركات في البلد، غير قادرة على اتّباع استراتيجيّة زيادة الأجور الّتي تقابلها زيادة في الأسعار، وستضطر عاجلًا أم آجلًا إلى الخروج من المنافسة، ومن السوق.
في لبنان، نجد أنّ الحدّ الأدنى للأجور الشهريّ بلغ ٦٧٥ ألف ليرة لبنانيّة، وقد كان يعادل ٤٥٠ دولارًا أميركيًّا قبل تشرين الأوّل العام ٢٠١٩. أمّا في هذه الأيّام، وفي ظلّ عدم تصحيح الأجور إلى اللحظة، فقد أصبح بالكاد يعادل ٣٠ دولارًا مع انخفاض قيمة العملة الوطنيّة لمستويات قاربت الـ٩٠٪. فعلى سبيل المثال، حصل موظّفو الخدمة المدنيّة في القطاع العامّ بحسب درجاتهم، على أجرٍ شهريّ يتراوح ما بين ٦٣٣ و١٧٢٠دولارًا منذ رفع سلسلة الرواتب والرتب في العام ٢٠١٧، بما أنّ المبالغ ما زالت تُحسب بحسب سعر الصرف الرسميّ: نحو ١٥٠٧ ليرات لبنانيّة للدولار الأميركيّ. أمّا بحسب سعر صرف السوق السوداء، وهو السعر الواقعيّ، الّذي أصبح يزيد عن ٢٠,٠٠٠ ليرة لبنانيّة للدولار، فإنّ هذه الرواتب تساوي فعليًّا ٥٠ و١٥٠ دولارًا فقط.
أمّا بالنسبة الى القطاع الخاصّ، وبغضّ النظر عن الحدّ الأدنى للأجور، يَصعُب إجراء الحسابات، نظرًا لتعدّد طرق التعويض، وخصوصيّات كلّ قطاع. إذ تدفع بعض الشركات لموظّفيها بالدولارات «الطازجة»، والتي يتمّ بالتالي صرفها في سعر السوق الموازية، وهي تحدّ في الوقت الحالي من تأثير انخفاض قيمة العملة على رواتب هؤلاء الموظّفين في القطاع الخاصّ. كذلك تختار شركات أُخرى تقسيم الأجور إلى قسمين، حيث تدفع جزءًا بالدولار الأميركيّ، وجزءًا بالليرة، وبعضها يدفع بالدولار اللبنانيّ «اللولار» الذي يعادل ٣٩٠٠ ليرة للدولار. وتتراوح الأجور في القطاعين التجاريّ والصناعيّ بين مليون ومليونين ونصف مليون ليرة لبنانيّة، أي بين ٦٦٦ و١٦٦٦ دولارًا بحسب سعر الصرف الرسميّ، أو بين ٥٠ و١٣٠ دولارًا فقط بحسب سعر صرف السوق الموازيّة. ويبقى العاملون في القطاع المصرفيّ الأفضل أجرًا، حيث يتراوح متوسّط دخلهم نحو ٣,٤ ملايين ليرة، أو ٢٢٦٦ دولارًا «وهميًّا» و١٨٠ دولارًا واقعيًّا بحسب المعادلة السابقة.
كان لهذا الانخفاض الحادّ في مستوى الأجور الآثار السلبيّة على المواطن اللبنانيّ، حيث انخفضت قدرته الشرائيّة، فيما بلغ معدّل التضخّم السنويّ ٨٤,٩٪ عام ٢٠٢٠، مقابل ٢,٩٪ عام ٢٠١٩، بحسب إدارة الإحصاء المركزيّ.
مهما وصلت إليه الأمور، وفي السياق اللبنانيّ الحاليّ، لن ينتج عن ارتفاع في الأجور عبثيّ أيّ حافز للنموّ. بكلّ بساطة، لأنّ ما سيتمّ توزيعه على الموظّفين سيعوّض من مكان آخر. وحتّى لو افترضنا أنّ زيادة الأجور تزيد من القدرة الشرائيّة وتحفّز الاستهلاك، فليس من المؤكّد أنّ هذه الزيادة سيكون لها تأثيرًا إيجابيًّا على الناتج الوطنيّ الإجماليّ، ولا سيّما أنّ عادةً ما تكون حصّة السلع الاستهلاكيّة المستوردة كبيرة.
فهل يحقّ لنا أن نخشى على المواطن من عبثيّة سياسيّة تغلب على الحكمة الاقتصاديّة؟ أم أنّنا اعتدنا من السياسيّين توظيف الأخضر واليابس من أجل بلوغ مآربهم، وخصوصًا أنّنا نقترب من الاستحقاقات الانتخابيّة؟ الله يستر!