هل يستسلم الفقراء قبل خوض المعركة؟
تتطلّب الحربّ ضدّ الفقر، أو الحدّ منه بدقيق العبارة، التحضير المسبق لسلسلة من المعارك، إذ ما زالت البشريّة منذ عصور طويلة تحاول تحقيق الانتصار عليه، ولو كان ذلك ضربًا من «الحالة الطوباويّة». فالأنظمة السياسيّة والاجتماعيّة عَرفت أنّ التفاوت الطبقيّ والاجتماعيّ هو من المؤشّرات الّتي تعمل ضدّ الاستقرار والازدهار. ولكن، كأيّ حربٍ يعرفها التاريخ، يميل السياسيّون إلى ربطها بعوامل خارجيّة، أي الظروف الّتي تخرج عن سيطرة الدولة نفسها، وتعجز عن التنبؤ عن مستقبلها مهما كانت تحليلاتها دقيقة. أمّا العوامل الداخليّة، هي من ناحية جشع الطبقات المستفيدة من الأنظمة الاقتصاديّة الحاليّة، الّتي تستغلّ أيّ ثغرة في المنظومات الاقتصاديّة، ومن ناحيّة أُخرى خنوع الطبقات الفقيرة الّتي ترفع الراية البيضاء أمام الوضع الراهن.
في ظلّ هذه المعارك الطاحنة بين العوامل جميعها، تعمل الحكومات على الحدّ من الفقر وعدم المساواة بوضع سياسات اقتصاديّة شاملة ومتكاملة، وتحقيق معايير مرتفعة في جودة عمليّاتها الماليّة الّتي تنظّمها، بما يحقّق توزيعًا عادلًا بين أفراد مجتمعاتها. وهنا، يجب أن نسلّط الضوء على التحدّيات ومصادر الغموض الّتي تواجهها هذه المنظومات الاقتصاديّة، وتحديدًا المنظومة الاقتصاديّة اللبنانيّة بخصوصيّتها الحاليّة، وما تمرّ فيه من حالة تدهور استراتيجيّ غير مسبوق، فانتقلت من حالة اجتماعيّة مكتفية وغنيّة نوعًا ما، إلى طبقة يغلب فيها الفقر بوجهٍ جامح على كلّ لبنانيّ، الأمر الّذي رفع مؤشّرات الخطر إلى حدودها القصوى، وبتنا نشهد تكوّن طبقات اجتماعيّة جديدة ومنعكسة، بعد أن كان طموحنا القضاء على آفة الفقر نهائيًّا.
السؤال الّذي يُطرح في ظلّ هذه الظروف الداخليّة، والاقليميّة، والعالميّة المتغيّرة، كيف ننعش الاقتصاد اللبناني في ظلّ معدّلات الفقر القياسيّة الّتي سبق أن تحدّثنا عنها طويلاً؟ وأعقد من ذلك، نجد أنّ محاولات دعم الفقراء بطرائق مباشرة وغير مباشرة هي في مجملها محدودة، وتضع جميع اللبنانيّين أمام المفارقة الأصعب: ما الهدف من العمل عندما يكون المقابل يقارب الصفر؟ وما الجدوى من تحسين الوضع الماليّ بمردودٍ لا يوازي المجهود؟
بعبارة أُخرى، لكي يستطيع اللبنانيّ اليوم تخطّي مصاعبه الماليّة، نجده أمام خيار واحد ناجح لا بديل منه: أن يبحث عن قوت يومه بعيدًا من الليرة اللبنانيّة المتدهورة. فأن يعمل في بلده اليوم لا يعني أنّه سيُشبع عائلته، وأن يصل نهاره بليله ويزيد من ساعات عمله لا يؤمّن مستقبله القريب. فهذا الأمر ستقضي عليه عاجلًا أم آجلًا أيّ زيادة في سعر السلع، وسيجد أن جلّ ما يجنيه بالليرة اللبنانيّة لا يتخطّى سعر بعض منتوجات سلّته الغذائيّة البسيطة، ففي نهاية النهار لا الليرة ولا اللولار، وحده الدولار الأميركيّ الطازج يمكن أن يشبعه.
على هذا النحو، يستمرّ الفقر وعدم المساواة في التصاعد، وتتّسع معه الهوّة بين طبقات المجتمع، واضمحلال الطبقة المتوسّطة في ظلّ التوزيع غير العادل للثروات داخل المجتمع اللبنانيّ، وعدم المساواة في الأجور للمركز الوظيفيّ نفسه، سواء أكان ذلك بين الجنسين، أو بين الشركات المحلّيّة ونظيراتها الدوليّة التي تستطيع دفع الأجور بالدولار الأميركيّ، وكذلك انعكاس فكرة تفوّق اليد العاملة اللبنانيّة مقابل بعض الجنسيّات الأجنبيّة الّتي لا ترضى اليوم الحصول على أجورها بالليرة اللبنانيّة. والأخطر من ذلك، هو عدم العدالة الّذي يُصيب دعامات المجتمع اللبنانيّ، أي الطبقة المثقّفة والاختصاصيّة، وهي أمام تهديدات ارتفاع الأقساط الدراسيّة والجامعيّة، وتقلّص سوق العمل اللبنانيّ، وافتقاده إلى الحوافز المغريّة، تجد نفسها ترفع راية الاستسلام وتخرج من المعركة قبل احتدامها، وتفضّل خيار الرحيل على مبدأ «مية مرّة كلمة مهاجر ولا كلمة قاعد بوطني معَتّر ومقهور».
هكذا، وفي ظلّ ظهور هذه التحدّيات المتجدّدة في كلّ مرحلة، يجب على الحكومات أن تقف أمام هذا التحدّي، وهي تحاول بالطبع ردم هوّة الفقر وتحفيز الازدهار، وإن كانت أحيانًا بوعود انتخابيّة مقنّعة تهدّئ الشارع قبل فترة الانتخابات. لكنّ المصيبة أنّنا لا نشهد سوى خطط متناقضة غير مدروسة، فكيف للاقتصاد اللبنانيّ أن يعاود الازدهار والحكومة نفسها قد أفضت عن مكنوناتها، ووعدت بزيادات خياليّة في سعر السلع المستوردة، وأرقام قياسيّة في تعرفة الكهرباء، والانترنت وغيرها من رسوم ومعاملات إداريّة مختلفة؟ كما أنّ جميع الخطط الإنقاذيّة التي تتلاعب على سعر الصرف الحقيقيّ والوهميّ، تضع الوزر الأكبر على الطبقة الفقيرة وتحمّلها الخسارة الأكبر، مقابل ظهور قوانين تحمي بطريقة غير مباشرة الاحتكارات، وتقتل أي مبادرة للشركات الناشئة والمتوسّطة لكي تنهض من جديد.
إذًا، كلّ شيء خارج عن المألوف في لبنان الحلم الغائب، وعلاوة على كلّ مكوّنات مجتمعه، نرى أنّ الفقير هو أمام حرب تفوق طاقاته المتواضعة والمحدودة أمام وحش التضخّم. ولكي لا يُحسب على من هاجروا وتركوا بلادهم وأُسِرهم، في حِلم يصوّره بعضهم خيانة، ها هو اليوم بدأ يتأقلم على العيش في ملجأ «سياسة أمر الواقع»، فهو لا يريد صرف مجهودٍ لا يعود عليه بالحرّيّة، وشريحة لا يُستهان بها أخذت تستمتع في البقاء تحت «الأرض» سواء اقتصاديًّا أم نفسيًّا. وقد يرتاح في حصن البطالة طالما أنّ هذا الحيّز يضمن له أفضليّته في «الطبقة الأكثر حاجةً»، ويتنعّم ولو بمجرّد حلم ورديٍّ يُدعى «البطاقة التمويليّة» الّتي قد تكون كفّتها راجحة في تعويض احتياجاته، أمام عملٍ آخر، أو مركزٍ أعلى، أو وظيفة أفضل قد تُخرجه من «نخبة» الأكثر فقرًا، وتحرمه من الاستفادة من الدعم المقدّم من الحكومة.
هكذا، لم تَعُد البطالة لبعضهم مصدرًا للخوف والقلق، وكأنّها اليوم مجرّد قنابل دخّانيّة ليس لها مفعول حقيقيّ يضعهم أمام تساؤلاتهم الوجوديّة، والحفاظ على كرامتهم الإنسانيّة بالحفاظ على عملهم وأن يتطوّروا ويشعروا بقيمتهم لأنّهم يأكلون خبزهم من عرق جبينهم. فقد أطلّت كورونا ومتحوّراتها، وأجبرت كثيرين على أن يكونوا في صفوف العاطلين من العمل، وقد تتفاقم تبعات هذه الأزمة الصحّيّة - الاقتصاديّة، خصوصًا على الأنظمة الاقتصاديّة الهشّة مثل النظام الاقتصاديّ اللبنانيّ الّذي ظهرت مؤشّرات انهياره قبل أقرانه منذ العام 2019، ومن دون أن نلجأ للتنجيم والتوقّعات، لا بدّ من أن تسجّل معدّلات البطالة في العام 2022 المعدّلات القياسيّة، ما دامت خطّة تصحيح الأجور ضبابيّة، وخصوصًا أنّ أرقام الموازنة لا تَعرف بدقّة طريقة الخروج من هذا المأزق، في حين يسعى مجموعة من السياسيّين إلى تخفيف حدّة الشارع بتعويضات إعاشيّة، تزيد من عجز المال العام على المدى القريب، وكذلك الفقير على المدى المتوسّط والبعيد.
صفّارات الإنذار دَوَت وملأت أرجاء لبنان مع تزايد حدّة القذائف الاقتصاديّة، وها هي تمهّد الطريق للسيطرة على لبنان «دُرّة الشرق الاقتصاديّ» منذ اندلاع الحرب الأهليّة، إلى يومنا هذا، في مجزرة مريعة من الأرقام القياسيّة السلبيّة من انخفاض الناتج المحلّيّ الإجماليّ، والمؤشّرات الاقتصاديّة الأُخرى.
من ناحية أُخرى، وفي نظرة أكثر موضوعيّة، نرى أنّه حتّى في البلدان المتقدّمة، تستمر «دولة الرفاهيّة» في العمل عن طريق تحسين أوضاع الفقراء والأُسر ذات الدخل المنخفض، لكن قوى السوق، والتغيّر في أنماط الحياة تصبّ في مصلحة الأُسر ذات الدخل الأكبر، والطبقات الاجتماعيّة الأعلى، ممّا يولِّد مجتمعاً أكثر تفاوتًا، ولكن من دون زيادة سلبيّة في مستويات الفقر، وبكلمة أُخرى، يبقى الفقير «مستورًا»، ولكنّه لن يجد نفسه يومًا في المستوى عينه مع بقية طبقات المجتمع.
يعود عدم المساواة في حدّ كبير إلى ما يحدث عند قطبَي توزيع الموارد النقديّة في المجتمع. لذلك، من شأن معدّلات الضرائب المرتفعة التي تُفرض على الأثرياء، و» المدفوعات التحويليّة» التي يتلقّاها الفقراء في المقابل عن طريق دعم المواد الأساسيّة، أو ما يوعد به اللبنانيّون مثل «البطاقة التمويليّة»، أن تقلّل بنحو فعّال من عدم المساواة في الدخل في المجتمعات التي تعرف سياسات ضريبيّة تصاعديّة، وهو مسألة قيد الدرس حاليًّا في لبنان.
للأسف، إنّ استمرار تدخّل الدولة ساهم في زيادة عدم المساواة، في حين يجب أن يحدث تغيّرًا كبيرًا في هيكليّة المجتمع اللبناني الاقتصاديّة للتخلّص الفعّال من الفقر، وهي المعركة الداخليّة الّتي يجب أن يخوضها، من دون أيّ شعور بالنقص أو العجز. علمًا أنّ ثمّة عاملين أساسيّين ضخّما من أثر النظام الاقتصاديّ الحاليّ. أوّلًا، أصبحت المداخيل أشدّ تفاوتًا، وثانيًا تغيّرت معها خصائص الأُسر اللبنانيّة، إذ أصبح من الاعتياديّ وجود شريك يعمل في الخارج، أو عبر الانترنت، في ظلّ تحوّر مفهوم العمل المكتبيّ، ليتقاضى أجره بالدولارات الطازجة. ومع ذلك، فإنّ تدخّل الدولة يعرف صعوبة أكبر في مواجهة هذه العوامل المعاكسة، الّتي هي السبب الجذريّ لازدياد عدم المساواة في الأجور. ومن ناحية أُخرى، تستمرّ الدولة في التأثير بنحو إيجابيّ على ما يحدث في أسفل السُلَّم الاجتماعيّ.
تُرفع اليوم الرايات البيض أمام وحش الفقر، لأنّ سقف تحسين الأجور هو تعويض بدل النقل من وإلى العمل نفسه، أو دفع فروقات فواتير الكهرباء المضاعفة، أو حضانة أطفالك، أو أدوية الأمراض المزمنة. وبطريقة ما، وبدل أن تجد الدولة الحلول الأنسب لرفع مستويات الطموح لدى الشعب، وزيادة الإنتاجيّة لديهم، ممّا ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني عمومًا، فهي اليوم ترفع من كلفة العيش على المستويات كافّة، وكأنّ ثمّة سياسة تعمل على ضمان عيش اللبنانيّ ضمن حال من عدم الاستقرار، بين الفقر وعدمه، بين الموت وعدمه، وبين الحرب وعدم اندلاعها.
ختامًا، يجب على لبنان الآن أن يعمل على سياسات الإدماج الاقتصاديّة، وخلق فرص العمل الجديدة والمبتكرة، والحدّ من الفقر، يُضاف إليها تحقيق التقدّم في كثير من المعارك الجانبيّة، مثل مشاركة المرأة في الحياة السياسيّة. لكن يبقى عدم المساواة في الدخل أكثر أشكال عدم المساواة إلحاحًا للتغلّب عليها، التي تظهر في فجوة الثروة المتزايدة بين المواطنين الأغنياء والفقراء. ففي لبنان، نحن في حاجة إلى نهج جديد للتنميّة المستدامة وإدارة رؤوس الأموال والأملاك إذا أردنا التغلّب على الفقر. لذلك يجب على الحكومة أن تبني حالة التنمية وترسّخها برؤية طويلة المدى تتسمّ بالنزاهة والشفافيّة. فإنّ هذه المعارك لا انتصار فيها إذا استُعبدت اليد العاملة الأجنبيّة، ولا إذا استُضعفت اليد العاملة المحلّيّة بالسيطرة على العمل النقابيّ، ولا بسياسة كمّ الأفواه الّتي باتت تظهر مع كلّ محاولة للتظاهر والتعبير عن حرّيّة الرأي.