الأمن الاقتصاديّ ومعارك الأفران
إنّ المشهد اللبنانيّ لا يُبشِّر خيرًا، وكأنّ ثمّة من يحرّض دومًا لزعزعة الاستقرار في مجتمعه، فإن استطاع المواطن اللبنانيّ تخطّي بعض الصعوبات الاقتصاديّة إلى حين، كاستقرار سعر صرف الدولار الأميركيّ نتيجة توافد المغتربين، فثمّة دائمًا مصادر إزعاج تضمن حالة القلق الدفين، آخرها كما كان متوقّعًا أزمة الخبز، والتزاحم على الأفران.
يعرف المجتمع لبنانيّ هوّتَين آخذتين في الاتّساع، الأولى في الفارق الكامن بين الغنيّ والفقير وانعدام الطبقة المتوسّطة، ولا يبدو أنّ ثمّة بوادر إلى انتعاش اقتصاديّ يدعم تلك الطبقة الأخيرة. والهوّة الثانية، هي بين المواطن نفسه والمسؤولين السياسيّين، فبات معظمهم خيال مسؤول، بل أنّ بعضهم يؤدّي دورًا يعاكس "رسالته" أي يهدف إلى أذيّة المواطن والاستهتار بمصيره وحرمانه من "رغيف" عيشه على حساب مصالحه الشخصيّة.
إنّ من يتجرّأ ويعبث بلقمة عيش الفقير، إنّما يضرب أمن البلد بعرض الحائط، هو يقدّم الطريق الأسرع إلى انهيار المجتمع اللبنانيّ المتماسك حتّى اللحظة بمعجزة "إلهيّة"، وصدق الأديب الإسبانيّ سيرڤانتس عندما قال: "تبدأ الأحزان بالتلاشي بتوافر الخبز". إذ أنّ مع كلّ انعدام وشحّ لأحد المواد الأساسيّة، يدخل المجتمع اللبنانيّ في حالة الحرب ولو نفسيًّا، وتؤدّي تصرّفات مثل التخزين والاحتكار إلى زيادة العجز عند المواطن، وبالتالي تعميق حفرة قبره الّذي ينتظره.
كما أنّ الشعور بالحرمان يضرب الشعور بالسلام الّذي هو "عماد" الحركة الاقتصاديّة لكلّ بلد، فسيزداد الشعور بالظلم لدى الطبقة الفقيرة، لأنّها محرومة من أيّ فرصة لتحسين أوضاعها الاجتماعيّة والاستشفائيّة والتدريسيّة، إلخ... ممّا يسهِّل في بعض البيئات المنغلقة سياسيًّا وثقافيًّا ودينيًّا عمليّة تغذيّة الشعور بالانتقام من الآخر، لأنّه لم يعُد شريكًا في وطن، بل ينافس على ما بقي من موارده. وبالطبع، تبرز لغة التخوين والعمالة في الظروف المشابهة لتلكُم المجتمع بضربتَين قاضيتَين، الأولى على صعيد الأمن الداخليّ، والثانية على الصعيد الاقتصاديّ.
في نظرة خاطفة على الأوضاع الّتي مرّ بها لبنان، نجد أنّ حصاد الوضع الاقتصاديّ المُذري هو ما زرعته التكتّلات السياسيّة الّتي توافقت في ما بينها على إدارة اقتصاد البلد في شراكة تُنادي بحقّ كلّ فريق في بذل ذاته وخبراته من أجل القيام بلبنان، في حين أنّ الهدف الحقيقيّ هو التحكّم بخيراته وتهجير خبراته من أجل ألّا يقوم إلّا متعثّرًا في كلّ مرّة.
كما أنّ الخطط الحكوميّة اللبنانيّة تجعل من الاستعطاء "الشحادة" أمرًا طبيعيًّا، بوجهٍ أصبح اليوم ثقافة تنتشر بين أفراد المجتمع نفسه، فإذا كانت الحكومة تستعطي المساعدات الدوليّة، فعلى المواطن أن يتماهى مع دولته ويمدّ يده للمساعدات الإنسانيّة، ولو أنّ الأخير مُجبر لا مُخيّر في كثير من الأحيان. لكنّ هذه العقليّة تُبقي البلد من دون أي خطط تنمويّة، خوفًا من تحسّن الأوضاع وبالتالي خسارة السيطرة على الشعب من ناحية، وخسارة الموارد الماليّة "الدولاريّة" من جهة أُخرى.
بالطبع، فإنّ هذه نظرة ضيّقة وأنانيّة، لأنّ عدم وجود المشاريع التنمويّة سيُزيد من سوء حال المواطن، الأمر الّذي سيؤدّي إلى ازدياد نقمته. كما أنّ استغلال التوتّر الداخليّ والاقليميّ، جعل جميع الفرص التنمويّة تنعكس سلبًا على المجتمع اللبنانيّ. فمثلًا، كان ممكن أن يكون لوجود النازحين السوريّين أثرًا إيجابيًّا على الاقتصاد اللبنانيّ لو تمّت دراسته، ومراقبة آليّات المساعدة والتوظيف. لكن، لم يتبقَّ من مسألة النازحين سوى مصدر لتعزيز النعرات الطائفيّة والسياسيّة، الأمر الّذي ينعكس سلبًا على الأمن المجتمعيّ، واليوم نرى لا نرى في اللاجئ السوريّ غير منافس على رغيف الخبز في طوابير الانتظار.
إنّ ما يحتاجه لبنان ليس سلامًا أمنيًّا وحسب، بل سلام فاعل يجعل منه الدولة الّتي يتمناها المواطن اللبنانيّ، الوطن الّذي يدلّ إليه باعتزاز في كلّ الميادين، البلد الّذي يحسده عليه الجميع. وهذه ليست مجرّد أحلام... فإن توافرت الظروف الاقتصاديّة، ستعود الاستثمارات الخارجيّة إلى لبنان، وبالتالي ستتحسّن الظروف المعيشيّة، وسيكون الحفاظ على حالة الاستقرار هذه من أولويّات المواطن ذاته، لأنّها تصبّ في مصلحته ورغد عيشه، ممّا يُعزّز الاستقرار الاجتماعيّ على الصعيد الداخليّ. وعندما تزداد الاستثمارات الخارجيّة، ستدعم أيضًا الأمن الإقليميّ، لأنّ من أولويّات الدول المستثمرة نفسها السعي إلى تعزيز الاستقرار الخارجيّ.
كلّ ما نرجوه هو أن يتوقّف مشهد الحرب على الرغيف وباقي السلع الأساسيّة، وألّا يتأقلم اللبنانيّ مع مشهد الصدامات اليوميّة بين المواطنين. والأولى بالمسؤولين تأمين متطلّبات الأمن الداخليّ الّتي تقوم على الاستقرار الاقتصاديّ، بدل ضبط التوتّر الآخذ في التصاعد في كلّ مخزن للبقالة، أو فرن، أو صيدليّة، أو مؤسّسة حكوميّة...