حقبة الحرب اللبنانيّة النفسيّة ومقاومة طوابير الذلّ
ثمّة مَكنة في لبنان تعمل جاهدةً على تعطيل تشكيل أيّ حكومة، علمًا أنّ العالم أجمع من أقصى شرقه إلى مغربه يعرف أنّ لا بارقة أمل لدولة من دون سلطة تنفيذيّة. هذه المعلومة البديهيّة ليست بعيدة عن ذهن أيّ لبنانيّ سواء في الداخل أم الخارج. وقد وجدنا أنّه في كلّ مرّة يُكلَّف أحدهم لرئاسة الحكومة، يسود مناخ من التفاؤل وينعكس على سعر الصرف، وهذا مفاده ارتباط السوق بالعوامل السيكولوجيّة الّتي تُضاف إلى قواعد العرض والطلب.
للأسف، إذا رسمنا خطًّا بيانيًّا لسعر صرف الليرة مقابل الدولار الأميركيّ، سنجد أنّه يضرب أرقامًا قياسيّة، ويعود للصعود مع كلّ تحسّن، حتّى أنّنا نستغرب كيف أنّ الليرة صمدت في أيّام الحرب، ولا تستطيع التقاط أنفاسها في أيّام السِلم. لكن، هل نشهد اليوم معركة داخليّة يدور رُحاها بين من يُطالب مصرف لبنان بالبقاء على الدعم، والتدخّل لضبط سعر الليرة من جهة، وبين جبهةٍ أُخرى تُناشد بضرورة قواعد السوق الحرّ؟
يظهر المضارب أو من يمتهن سوق الصرافة بصورة العدوّ في غالب الأحيان، لكنّه في الواقع يخوض حربه بسلاحه الّذي هو التخمين، إذ يأخذ على عاتقه هامشًا من الخسارة أيضًا، وبالتالي فإنّ وجوده في ميدان المعركة يعود بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلى منفعته، وكذلك منفعة استقرار سعر الصرف نفسه، إذ يُسرِّع هذا التدخّل تعديل أسعار الصرف كي تعود إلى قيمتها الحقيقيّة المتوازنة، هذا بالطبع بعيدًا عن بعض من يقوم بألاعيب مؤذية قد يكون دوافعها سياسيّة محضة.
إنّ موضوع تخمين سعر الصرف لأساسيٌّ في تثبيت الأسعار، إذ يولّد الدور السيكولوجيّ عند المضاربين موجةً إيجابيّة أو سلبيّة بحسب توقّعاتهم وقراءتهم للأحداث الاقتصاديّة الخارجيّة والداخليّة، لذا نجد أنّ في حالة لبنان تغلب الحالة النفسيّة على التحليلات الصرفة المعتمدة على الهيكليّات الاقتصاديّة، لأنّه إذا اعتمدنا الدراسة المنطقيّة لوجدنا أنّ على الدولار الأميركيّ غير ما عليه اليوم.
في العودة إلى المشهد الاقتصاديّ، نجد أنّ أزمة المشتقّات النفطيّة والتهديد الّذي يلوح برفع الدعم عنه، يُضاف إليه المعضلة الأساسيّة في سعر الصرف، قد أدّيا إلى تضخّم هائل في أسعار المواد الغذائيّة ممّا أفقد المواطن قدرته الشرائيّة، وارتفعت معه معدّلات التضخّم الّذي قد تصل إلى ١٠٠٪ في هذا العام. ناهيك عن معدّلات البطالة الّتي قد تجعل ما يوازي نصف المواطنين عاطلين عن العمل، من دون أن ننسى أنّ من يحافظ على عمله، لم يحافظ على قيمة راتبه مقارنة بالسوق، ولن نتحدّث عن الفقر، لأنّنا وصلنا إلى مرحلة فقدنا فيها لا الليرة وحسب بل الكرامة في طوابير الذلّ.
إنّ الحرب اللبنانيّة اليوم من نوعٍ آخر، وهي قد تكون أشدّ فتكًا من تلك الّتي عرفناها يوم سادها أمراء الحرب بمدافعهم وصواريخهم. اليوم حرب اللبنانيّ لهي نفسيّة تقوده إلى استهلاك جميع طاقاته في البحث عن قوت عيشه، والالتحاق بطوابير الذلّ، وبرنامجه الأسبوعيّ لا بل اليوميّ، يتغيّر فقط بتنوّع نوع المادّة الّتي يجاهد في البحث عنها، اليوم بنزين، وغدًا خبز، وبعده غاز، إلخ... حرب نفسيّة تضرب قواعد الأنظمة الاقتصاديّة الكلّيّة من دون أيّ سلاح.
هكذا نرى كيف يغيب المنطق وتطغى العوامل السيكولوجيّة على بقية الأمور في معادلة سعر الصرف. فترتبط هذه العوامل بعدم استقرار المناخ السياسيّ والأمنيّ المحلّيّ، إذ ساهمت بجعل بيروت واحدة من أغلى المدن معيشةً، وارتباطها خصوصًا بهبوط العملة المحلّيّة، وارتفاع أسعار المسكن، والمواصلات، والكهرباء، وغيرها... ومن العوامل المُحبطة والقاتلة أيضًا، مراقبة اللبنانيّ ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكيّة الضروريّة من دون أن تتأثّر بانخفاض الدولار الأميركيّ لحوالى ٣٠٪ بالتوازي مع تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة. بل أنّ السلة الغذائيّة بحسب وزارة الاقتصاد والتجارة تُكلّف ما يُقارب الـ ٢,٥ مليون ليرة لتتضاعف قيمتها ثلاث مرّات في عامٍ واحد.
هكذا نجد أنّ قواعد المعركة نفسيّة بحتة، لأنّ بعض تجّار الحرب مطمئنين نفسيًّا أمام وعود سلطة لا سلطة لها، وقد نجد أنّ ثمّة دائرة "لحماية وحوش السوق" لا لحماية المستهلك. وكيف يمكن ردع جيش من المستفيدين وقطّاع الأرزاق إن لم يُحرّر بحقّهم أيّ مخالفة؟ وبما أنّ الليرة اللبنانيّة قد فقدت أكثر من ٦٠٪ من قيمتها في السوق الموازية، فإنّ أسعار المستهلك ترتفع على الدوام.
في ظلّ انتظار تشكيل حكومة جديدة تستند في أولى خطواتها على بعض المساعدات الدوليّة الّتي وعِدت بها في إثر المؤتمر الدوليّ المنعقد في ذكرى انفجار بيروت، وقبلها من مؤتمرات الدعم، على من سيتولّى إدارة البلاد ألّا يعمل على وقف نزيف الليرة اللبنانيّة وحسب، بل عليه تحصينها وإعلاء سورٍ منيع يقوم على عدّة متاريس، أهمّها تصحيح الرواتب، والاستقرار السياسيّ، والإصلاح الاقتصاديّ، ومراقبة الأسعار، وغيرها، ليعود اللبنانيّ مقاومًا مستقلًّا حرًّا سيّدًا، متعافيًّا نفسيًّا واقتصاديًّا، ويتخطّى الحقبة الأشدّ سوادًا في تاريخه.