خبّي قرشك المشفّر.. في يومك الأسود
من عادة اللبنانيّين أن يعتادوا إطلاق اسم علامة مسجّلة على كل المنتجات المتشابهة، فالمناديل الورقيّة هي "كلينكس" ««Kleenex»، وقلم الحبر السائل هو "بيك"«Bic»، وهلمّ جرًّا. ولم تختلف العادة اليوم حتّى في الأمور التقنيّة، وأصبحنا نطلق على أي عملة رقميّة غير اعتياديّة "البيتكوين" ««Bitcoin» تيمّنًا بأشهر العملات المشفرّة «Cryptocurrencies»، وهي كثيرة اليوم ولن نطيل في ذكرها. لكن، هل الأزمة الاقتصاديّة ستكون عاملًا ملحًّا ومشجّعًا للبنان على ركوب موجة التكنولوجيا والابتكار ليعود رائدًا في العالم الماليّ من جديد؟
بعد أن عجز مصرف لبنان عن تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانيّة بالنسبة إلى الدولار الأميركيّ، ما زلنا أمام غمامة الحلول الممكنة لنجاة البلد من أزمته: من اقتصاص للودائع، إلى استدانة، إلى رفع نسبة الديون بالليرة اللبنانيّة، إلى فرض ضرائب على أرصدة الدولار الأميركيّ، إلخ... نجد أنّ الضربات متنوّعة والمتألِّم واحد، الشعب اللبنانيّ نفسه، والحالة النهائيّة تقودنا إلى ضرورة تفعيل منظومات تُحفِّز المؤسّسات الناشئة «Startup» على تبنّي الابتكارات الماليّة، ومنها العملات المشفّرة.
إن عوائق التعامل بالعملات المشفّرة تكمن في عدم مقدرة المصارف المركزيّة على مراقبتها وتنظيمها بما فيها مصرف لبنان المركزيّ، وهي تفتقر إلى الاحتياطات بالعملة الصعبة اللازمة لدعمها في ظلّ الأزمات. لكنّ ظهور العملات المشفّرة، حثّ دول صاحبة النقد التقليديّ (اليورو، اليوان الصينيّ، إلخ) على التفكير بطرح نسخة رقميّة منها، وهنا يمكننا أن نتحدّث عن طرح حاكم مصرف لبنان يومًا بما يخصّ الـ E-Lira.
إنّ العملة الرقميّة في هذه الحالة، هي وسيلة تسهّل من تبادل العملات (تحت إشراف المصارف المركزيّة) بين صغار روّاد الأعمال، وهذا ما يُسهّل عمليّة التبادل التجاريّ، من دون الحاجة إلى التعامل بالعملات الأجنبيّة التقليديّة "العملة الصعبة الورقية"، الّتي تزداد صعوبة الحصول عليها يومًا بعد يوم في لبنان، مما يخفّف من وطأة العجز الماليّ الناجم عن أيّ عمليّة ماليّة خارج لبنان.
لكن، من ناحية عمليّة-واقعيّة، من شأن الابتكارات الماليّة (الّتي نستخدم جملة منها في حياتنا اليوميّة، ومنها البطاقات المصرفيّة، والدفع عبر أجهزة الموبايل، إلخ) أن تساند الشركات على إعادة نموّها بوجهٍ أسرع، وتحفّز كبار المستثمرين على انتشال الكثير من الأعمال التقليديّة وتمويلها بمبالغ طائلة.
كما كان الأمر في جميع الظروف الّتي مرّت بها المنطقة ولبنان، فحكمة "خبّي قرشك الأبيض ليومك الأسود" تجد لها صياغة رقميّة اليوم. فالقرش الأبيض ممكن أن يكون مشفّرًا، ويمكنه أن يتخطّى عمليّة الحجز على الودائع الّتي يمكن أن يطبّقها أي مصرف مركزيّ. إذ ثمّة ميزتان أساسيّتان لدى العملة المشفّرة: الأولى، أنّها خارج تحكّم السلطات المركزيّة في ظلّ استياء المواطنين من سياسات حكومتهم الاقتصاديّة. والثانية، إمكانيّة الحصول عليها بسهولة أكبر من نظيراتها الورقيّة في الأزمات الاقتصاديّة.
توضّح الدراسات الّتي أُجريت في بلدان عدّة واجهت أزمات اقتصاديّة حادّة كالتي يواجهها لبنان، أنّ الناس يجدون مع الزمن في العملات المشفّرة قيمة بديلة لعملتهم الّتي يتحصّرون عليها يومًا بعد يوم. ويمكن متابعة ارتباط ارتفاع أسعار العملات المشفّرة بظهور الأزمات الماليّة في العالم (مثال اليونان، وقبرص، والأرجنتين، إلخ...). ومما يُساعد الحصول على العملات الرقميّة، طبيعة هذه العملات في صعوبة مصادرتها، وسهولة نقلها وتجزئتها (المعنى الحرفيّ للقرش الّذي يكوّن أجزاء الليرة)، وأمان أعلى... تمامًا كما هي الحال عندما يميل الناس في معظمه ليضعوا ثقتهم بالذهب الأصفر.
على الرغم من التقلّبات الشديدة في قيمة العملات المشفّرة كالبيتكوين، إلّا أنّها حتّى اللحظة تُظهِر مؤشّرات جبّارة في ثباتها على المدى الطويل، فقيمة البيتكوين ارتفعت من ١٠٠ دولار أميركيّ في بداية طرحها للتعامل، إلى ٦٠٠ ضعف في الآونة الأخيرة. وأيّ تجارة لا تعرف هامشًا من المخاطرة...؟ أليس إيداع الأموال في المصارف التقليديّة ضرب للمجازفة، أقلّه في لبنان اليوم؟
لكي يعود لبنان إلى عافيّته الاقتصاديّة، يجب على الحكومات أن تُعيد التفكير في قراراتها، إذ ثمّة فرص لتطوير عمل الأفراد والشركات اللبنانيّة وازدهارها، وكذلك توفّر العملات المشفّرة والرقميّة ميّزات مهمّة، في كلفتها المتدنيّة، وشفافيّة التعامل بها في حال تنظيمها، ودعمها الأكبر لريادة الأعمال، ومساهمتها في الحدّ من الفقر.
في ظلّ منع مصرف لبنان التداول بالعملات المشفّرة منذ العام ٢٠١٨ لمخاوفه التنظيميّة، على الرغم من إيمانه بالاقتصاد الحرّ. يبقى السؤال مطروحًا: هل تُبنى مشاريعنا الاقتصاديّة بحسب الدراسات الاقتصاديّة المتينة أم بحسب أفكار خُلّبيّة؟ هل تُطرح أو "توضع في الِدرج" على هوى المزاج أو وفق معايير ثابتة؟ أوليست أزمتنا في لبنان اليوم حافزًا على إعادة دراسة الابتكارات الماليّة الممكنة، والعمل الممنهج على وضع القوانين الناظمة لها؟