زيادة المعاشات... ومورفين الشعوب
تُرعبنا الأرقام والإحصائيّات الّتي توصّف الوضع الاقتصاديّ في لبنان، ولا نحتاج إلى "أخصّائيي التخدير" كي يهدّؤوا من روع اللبنانييّن ويغيّبوهم عن الواقع. فمهما حاولوا من تخفيف أثر الصدمة، لا شيء يساعد المواطن على النوم هانئًا سوى استطاعته تأمين حياةً كريمة لعائلته حتّى آخر الشهر! لذا، ثمّة رقم واحد من كافّة المؤشّرات الاقتصاديّة تؤرقه: "ما يدخل في الجيبة، وما يخرج منها..."
كيف يغمض للبنانيّ جفنه بعد أن أصبح يحسب غرامات ربطة الخبز؟ أو مشوار السرفيس؟ أو ثمن ورقة وقلم وكتاب لأساسيّات تعليم أبنائه؟ بالطبع، في وسط هذه الكوابيس المستمرّة، يُستساغ لدى المواطن الكريم أيّ كلام عن "زيادة المعاشات"، فهو لم يعد قادرًا على التخطيط لمستقبله، ولا يرى أبعد من آخر الشهر، أو آخر الأسبوع.
وتكمن المعضلة في أنّ كثرة اللطمات السابقة، من بطاقة تمويليّة غير مموّلة، إلى تحدّيات سياسيّة لا تُطعم خبزًا، مرورًا بإجراءات إسعافيّة لا تشفي، قد أفقدت المواطن الحسّ بالألم "تَمسَحنا !!!"، ولن يستطيع أن يشعر لاحقًا باحتضار واقعه الاقتصاديّ، فزيادة المعاشات هي "مورفين الشعوب"، وفي الوقت عينه وصفة السياسيّين المحبّبة لتهدئة الشعب.
في الآونة الأخيرة، باتت شريحة كبيرة من الشعب اللبنانيّ خارج الصراعات المطلبيّة منذ ١٧ تشرين الأوّل ٢٠١٩، فهي ابتعدت عن صراع المصارف على ما يبدو بعد أن استنزفت مدّخراتها عن طريق "مَكنة اللولار" وغيرها، كما أنّها انشغلت عن الحراك السياسيّ إلى حين، في ظلّ عدم ولادة أيّ إصلاحات ملموسة مهما تغيّرت "التشكيلات".
كما سبق وذكرنا، إنّ اهتمام المواطن العاديّ بلقمة عيشه، وضيق أفقه الّذي قد لا يتخطّى بضع أيّام في بعض الحالات، جعله لا يكترث لمستويات التضخّم المستقبليّة الّتي ستعود عليه بسلبيّة أكبر، إذ أنّ "قرشًا في الجيب أفضل من ليرة في الغيب". ولماذا نفكّر في الغيب؟ إذ قد يحلّ بنا انفجار آخر يُلحِق باقي اللبنانيّين بأكثر من نصف مواطنيهم الّذين أصبحوا تحت خطّ الفقر. فتعثّرات الوصول إلى الحقيقة، قد تشجّع على مسح اقتصاد البلد وسحقه من دون حساب...
من ناحية معنويّة وبعيدًا عن الأرقام الاقتصاديّة، تبرز مسألة زيادة الأجور بدورها الإيجابيّ، فهي ستساعد شريحة كبيرة من المواطنين العاملين في القطاعات الخدميّة والدفاعيّة على زيادة همّتهم في وطنٍ يؤمّن لهم "المعاش الكريم"، وهم أهل صرخة محقّة في ظلّ التضحيّات الّتي قدّموها ويقدّمونها.
لكنّ الخطر يكمن في أن يُنظر إليهم كأنّهم طرف آخر مقابل القطاعات الاقتصاديّة المنتجة... ونخشى أن تُلعب هذه الورقة لخلق صدام جديد في لبنان لا على أساس طائفيّ أو مناطقيّ، بل على أساس قطاعيّ، على غرار ما حصل من تحرّك ضدّ القطاع التعليميّ لتحميله تبعات الانهيار بسبب أزمة "سلسلة الرواتب والرتب".
إنّ مسألة الحدّ الأدنى للأجور ليست موضة جديدة، بل مسألة مبدأ يضمن كرامة كلّ مواطن منذ مطلع الدول الحديثة وانهيار الإمبراطوريّات في بداية القرن العشرين. وتنظر جميع الهيئات العالميّة إلى هذا المبدأ كونه أساسًا داعمًا لاستقرار "السلم الأهليّ" بحسب معايير العدالة الاجتماعيّة، وخوفنا هنا أن تجرح كلمة "السلم الأهليّ" مشاعر بعض السياسيّين...
يعي جميعنا أنّ ثمّة اقتصاد يزدهر في ظلّ الأزمات، وقد عرفنا هذه الفترة في الحرب الأهليّة، فالحرب نفسها تولّد حلقة اقتصاديّة استثنائيّة، يمكن لكثيرين الاستفادة منها. واليوم، حربنا "مش متل باقي الحروب"، فنجد لبناننا بين خيارين في مسألة تصحيح الأجور، فارتفاعها سيزيد المقدرة الشرائيّة لدى المواطن، ويحرّك السوق الداخليّة، لكنّه في المقابل قد يدفع أصحاب الأعمال وخصوصًا الصغيرة والمتوسّطة إلى تخفيض مواردهم البشريّة، أو إلى الاستسلام للمؤسّسات الأكبر على المدى البعيد، وغلق أبوابهم لعدم مقدرتهم على المنافسة.
في النهاية، لا ننسى أنّ ضبط الحدّ الأدنى للأجور لا يشمل البدل المادّيّ لساعات العمل فقط، بل التوزيع العادل لمردود الإنتاج، وزيادة نسب التعويض والتأمين للحماية من خطر البطالة، وحماية اليد العاملة المحلّيّة، إلخ... وهذه العمليّة تقوم على التفاوض على مستوى جماعيّ، ووطنيّ لسنّ القوانين التشريعيّة. فهل نرى وضع لبنان الحاليّ ملائمًا لهذه الطروح؟ أم أنّ ثمّة احتمال لتسييس عمليّة تصحيح الأجور بما يخدم مصلحة بعض الجهات السياسيّة؟ وأين الصوت الحرّ والمستقلّ اليوم؟ ومن يوقظه من حالة التخدير العامّ بعد أن أصبح يعيش تحت أثر المورفين السياسيّ؟