قروش العملات المشفّرة ... لا تَشبَع ولا تُشبِع
سجّلت عملة بيتكوين في الأيّام الأخيرة أرقامًا قياسيّة، إذ تخطّت عتبة الـ 65 ألف دولار أميركيّ في إثر انتعاش سوق العملات المشفّرة وارتفاع الطلب عليها بما يفوق معدّلات تعدينها (العرض). وما ينطبق على البيتكوين بوجهٍ خاصّ، ينطبق على باقي العملات المشفّرة بوجهٍ عامّ، بسبب زيادة الثقة العالميّة لدى المستثمرين، وخصوصًا مع تبنّي المؤسّسات العملاقة، وكذلك دولًا بأكملها التعاطي بالعملات المشفّرة.
إذ يترقّب المستثمرون موافقة المنظّمين الأمريكيّين على إطلاق أوّل صندوق للعملة المشفّرة في سوق البورصة قريبًا، وقد لمسوا أيضًا تسامحًا من جهة الرئيس الروسيّ في التعامل بالبيتكوين على الرغم من تحذيرات بنك روسيا المركزيّ، وذلك بالتوازي مع زيادة الاستثمار في عمليّة التعدين نفسها، ومحاولة البحث عن الطرق الأكثر استدامة، والأشدّ أمنًا.
لكن، ما ينطبق على المستويات العامّة ليس بالضرورة أن ينطبق على المستويات الخاصّة، فازدياد الثقة بالعملات المشفّرة، لا يعني ازدياد الثقة بالتعاملات الشخصيّة المصغّرة، لان اتّساع هذا الانتعاش، يحفّز معه عمليّات الاستثمار السلبيّ، أي عمليات الاحتيال الّتي تقوم على اقتناص الأفراد وشنّ حملات مكثّفة تزيد فيها احتماليّة وقوع بعض الأشخاص، وبالتالي تعود بمنفعة أكبر على الجهات المتحايلة.
هذا ما حصل مع بعض اللبنانيّين، عندما تفاءلوا بالاستثمار في العملات المشفّرة، محاولين الهروب من حيتان المصارف التجاريّة الّتي ابتلعت معظم مدّخراتهم، فوقعوا في مصيدة قروش تشتَمّ رائحة الجيوب النازفة من بعيد. نعم، فبعد أن وثق بعضهم بشركة احتياليّة، لعبت على الاسم وانتحلت صفة إحدى الشركات العالميّة، نصبت شِركًا يقوم على منح معدّلات فائدة كبيرة على العملات المشفّرة (وصلت إلى ٣,٦٪)، فاستدرجت بهذه الطريقة قلوبهم، واستغلّت رعونتهم في الاستثمار الاقتصاديّ، و"قضمت منهم" مبلغًا يقدّر بـ ٣٠٠ مليون دولار أميركيّ.
في هذا الخصوص، وبعيدًا عن عمليّات التحايل غير القانونيّة، يمكن أن نذكّر بأهمّ مخاطر التعامل الرقميّ بالعملات المشفّرة، الّتي تحتاج إلى الخبرة في التعامل، ونهج مغاير للطرق الاعتياديّة.
- مخاطر التعامل: إنّ العمليّات المشفّرة هي عمليّات غير قابلة للعكس. لذلك، فما إن يوافق عليها الزبون تُعتبر بحكم النافذة من دون مجال للتراجع. كذلك، إنّ جميع العمليّات قائمة بين أشخاص أو حسابات غير معلومة الهوّية، وجميعها تكون في حيّز افتراضيّ، وضياع معلومات الدخول الشخصيّة يعني فقدان قيمة المحفظة المشفّرة نفسها.
- مخاطر التحايل: إنّ سرعة إتمام العمليّة وعدم وجود الأطراف الوسيطة تجعل العمليّة غير قابلة للتحقّق أو التصديق. كما أنّ عالم العملات المشفّرة عالم من دون أبواب، لأنّ كل تطبيقاته وبرمجيّاته مجّانيّة ومفتوحة للجميع بطريقة لا يمكن ضبطها مطلقًا. علمًا أنّ اختراق العالم المشفّر شبه مستحيل، ممّا يزيد أمانه لكل الجهات، بمن فيها تلك الّتي ترغب في إجراء العمليّات غير الشرعيّة، وغير النزيهة.
- مخاطر الاستثمار: إنّ العملات المشفّرة غير مدعومة، أو مشرّعة، أو مضمونة حكوميًّا (حتّى اللحظة)، كما أنّها أكثر تقلّبًا من العملات التقليديّة، ممّا يُزيد خطر الخسارة عند من يستثمرون بها، خصوصًا على المدى القصير.
هكذا، تبقى معايير الوقاية نفسها أينما كنّا، فكما أنّ من لا يحترف الغطس والسباحة مُعرّض لخطر الغرق والانجراف باتجاهاتٍ مجهولة، كذلك من لا يعرف أصول التعامل الرقميّ بالعملات المشفّرة، يتوجّب عليه توخّي الحذر، فمياهها غدّارة وإن بدت هادئة وسالمة. فهل يركب اللبنانيّ أمواج عالم العملات المشفّرة ويمتهن ترويض أمواجه كما فعل أسلافه الفينيقيّون بالبحر المتوسّط؟ أم أنّه يبقى على شواطئ الادّخار في الأماكن الخفيّة، "يُغنّي بعيدًا" عن حيتان الاستثمار المصرفيّ وقروشه...؟