لبنان... موازنة من دون ميزان
تهدف الموازنات إلى تسجيل فائض أو تقليص العجز على المدى المتوسّط والطويل. أمّا في لبنان، فهذا لم يكن يومًا موجودًا بالرغم من وفرة الكفاءات التقنيّة والاقتصاديّة والاستراتيجيّة، إذ لم يُتَح دورًا لأولئك، بل على العكس هيمن جهل التبعيّة السياسيّة وجشع بعض السياسيّين في تدمير كلّ شيء.
اليوم، لا خطّة ولا مقوّمات اقتصاديّة موجودة، في ظلّ استحالة الاصلاح الماليّ والإداريّ. إذًا، كيف للفرد أن يستطيع العيش ويكون منتجًا ويدفع ضريبته لدولة ترعاه؟
وفي هذا الإطار، كتبت البروفيسورة في الجامعة اليسوعية ندى الملّاح البستانيّ عبر "لبنان 24": منذ بضعة أيّام أصبحنا نسمع عويل بعض السياسيّين وصراخهم عن ضرورة إقرار الموازنة، وكأنّهم أصبحوا الآن خبراء في الشؤون الماليّة والاقتصاديّة بعد أن ساهموا في افلاس البلد وتدمير اقتصاده على مرّ السنين. فما الموازنة الّتي يريدونها؟ أهي موازنة ٢٠٢١ ... لكنّها أرقام دفتريّة لا أكثر ولا أقلّ. ما مداخيل الدولة الضرائبيّة إذا كان الاقتصاد مدمّرًا أصلًا؟ فالشركات مفلسة وكذلك الأفراد. والمواطنون يواجهون "ڤيروس" تدنّي قوّتهم الشرائيّة لا بل انحطاطها إن صحّ التعبير!
إذًا، ليرات موازنة ٢٠٢١ هي ليرات وهميّة ومطبوعة من هنا وهناك لتسجيل زيادة في العجز الوهميّ في نهاية الأمر. أقول عجزًا وهميًّا نتيجة موازنة وهميّة في بلدٍ ينهار انهيارًا حقيقيًّا. فهل أبواق المطالبة بإقرار موازنة ٢٠٢١ تهدف فقط لفبركة أرقام لم يعد لها معنًى؟ أم الهدف من ذلك تأجيج حركةً شعبويّة سياسيّة غبيّة؟ لكن، قبل أبواق الموازنة أين هي أبواق الاصلاح ومحاربة الفساد وتأثيراته الحقيقيّة الملموسة؟ إذ أنّ موازنات الدول الّتي لا تُبنى على خططٍ اقتصاديّة لتطوير البلاد واصلاحها، لا معنى لها على الاطلاق.
في لبنان ومنذ سنين عديدة، كانت عمليّة تحضير الموازنة واقرارها ذات أهداف سياسيّة فقط، وليس لها أيّ علاقة على الاطلاق بتطوير الاقتصاد. كنّا نشهد دومًا صفّ أرقام المداخيل والنفقات، وتمويل العجز المتماديّ بتشريع المزيد من الدين العامّ، وكان يواكب ذلك نداء السياسيّين من هنا وهناك بخصوص أمور غير أساسيّة وبنيويّة في الموازنة، واهمين المواطن أنّهم من أشرس المدافعين عن حقوقه.
بالرغم من هزليّة مضامين الموازنات في لبنان بقي البلد فترات من دون موازنة نتيجة خلافات سياسيّة فقط لا غير. ويبقى السؤال: ما أهمّيّة الموازنة العموميّة في بلد ما غير لبنان يديره أشخاص أكفّاء أذكياء شفّافون يدافعون عن الفساد والظلم من أجل تحقيق التطوّر والوصول إلى الحرّيّة؟
كما أوضحنا سابقًا أنّ الموازنة ليست صفّ أرقام، إذ يجب أن تكون معاييرها نتيجة لسياسة اقتصاديّة واصلاحية واضحة ودقيقة. بالمطلق ولعدم الغوص بالتفاصيل التقنيّة، تتكوّن الموازنة من مداخيل ومصاريف ومجمل القوانين الّتي تساعد على تطبيق هذه الخطّة الاقتصاديّة والاصلاحيّة وتهدف للوصول إلى الأرقام المرجوّة في الموازنة.
في المداخيل مثلًا، تكون التقديرات ناجمة عن خطّة اقتصاديّة معيّنة لها تأثيرات ضرائبيّة متنوّعة معتمدة على طبيعة الخطّة ونوعها من ناحية التوسّع الاقتصاديّ والمحافظة على العدالة الضرائبيّة في الوقت نفسه من خلال توزيع ضرائبيّ عادل ونسبيّ على جميع الفئات الاقتصاديّة والاجتماعيّة في البلد.
أمّا مصاريف الموازنة، فيجب أن تكون مرتبطة عضويًّا بتنفيذ الخطط الاقتصاديّة الّتي تحدّد طبيعة الانفاق وحجمه على المشاريع المنتجة ومشاريع البنية التحتيّة وأيضًا على خطط الاصلاح والتطوير الإداريّ الّتي تعالج تضخّم الإنفاق في الإدارة وسبل معالجته عبر إعادة الهيكلة وتطوير قوانين بعض المؤسّسات والاستثمار في الحكومة الإلكترونيّة (e-governance).
وفي الخلاصة، تهدف الموازنات إلى تسجيل فائض أو تقليص العجز على المدى المتوسّط والطويل. أمّا في لبنان، فهذا لم يكن يومًا موجودًا بالرغم من وفرة الكفاءات التقنيّة والاقتصاديّة والاستراتيجيّة، إذ لم يُتَح دورًا لأولئك، بل على العكس هيمن جهل التبعيّة السياسيّة وجشع السياسيّين في تدمير كلّ شيء.
اليوم، لا خطّة ولا مقوّمات اقتصاديّة موجودة، في ظلّ استحالة الاصلاح الماليّ والإداريّ. إذًا، كيف للفرد أن يستطيع العيش ويكون منتجًا ويدفع ضريبته لدولة ترعاه؟ ويبقى السؤال في ظلّ الجوائح المتراكمة: هل تستطيع تحويلات المغتربين إنقاذ الدولة والقيام بمهامها في ضمان العيش الكريم لأبنائها وتحفيز انتاجيّتهم وكذلك رعايتهم؟