متاهة التدقيق الجنائيّ وعقدة الزمن...
في بلدٍ يعيث فيه الفساد، وتُطبَّق موازناته من دون مراقبة أو حسبان، تتراكم الثروات عند قلّة قليلة من المسؤولين وكأنّنا أمام نخبة G7 لبنانيّة تتحكّم بمصير الشعب إذ تزعم أنّها صاحبة القوى العظمى. فالدولارات مكدّسة في حسابات تتوارى عن الأنظار بحجّة السرّيّة المصرفيّة وما بعد بعد السرّيّة المصرفيّة... اليوم، تدخل أيّ محاولة لتطبيق التدقيق الجنائيّ في دهاليز تشريع القوانين وتنفيذها، وتظهر على الدوام المصالح الشخصيّة لتزيد من ضياع اللبنانيّين في بحثهم عن طريقة خروج من متاهة استعادة الأموال المنهوبة قبل أن يبتلعها وحش الزمن.
في قلب هذه الحيرة، يسمع المواطن صدى المصالح الشخصيّة، كذلك وشوشات الدفاع عن شخص حاكم مصرف لبنان فيختلط عليه أمر تعميم التدقيق الجنائيّ أو تضييقه. فالخيار الأخير، يَحدّ تطبيق التدقيق الجنائيّ فقط بمصرف لبنان، وبهذه الحالة يصبح سهل التنفيذ ضمن إطار زمنيّ معقول. أمّا خيار التعميم في توسيع رقعة هذا التدقيق، ليشمل كلّ المؤسّسات والشركات والوزارات فنتائجه أدقّ، لكن قد تطول مدّة تحقيق نتائجه، كما يشوبه تأييد بعضهم ممَن يظنون حماية حاكم مصرف لبنان بتوسيع دائرة الاتّهام. بالطبع، إنّ كِلا الرؤيتين قاصرتان في مشاهدتهما للواقع الاقتصاديّ-السياسيّ.
إنّ التدقيق الجنائيّ بعيدًا عن الجدالات العقيمة والمناورات الشخصيّة هو عمليّة حياديّة تهدف إلى فحص سجلّات الحكومة الماليّة ومؤسّساتها لاستنتاج الأدلّة الممكن تقديمها إلى المحاكم والإجراءات القانونيّة، والتفتيش عن حالات الاحتيال، وبالطبع تطبيقه في أيّامنا هذه على الحكومة اللبنانيّة، لكن أيجدي نفعًا إذ طُبّق فقط على عمليّات مصرف لبنان المركزيّ؟
فالتدقيق الجنائيّ لا يفتّش عن الأدلّة السطحيّة لأيّ عمليّة تجاريّة، أي الأرقام الماليّة وحسب، فهذه الأخيرة يمكن توريتها بطرائق شرعيّة وقانونيّة، ولا يعجز مَنْ أمتهن الكذب على الشعب في الأقوال، أن يطبّق هذا النهج في الأموال... لذا، يُشتَرط على التدقيق الجنائيّ البحث في مستوياتٍ أعمق ليستهدف وجود تضارب في المصالح أو استغلال أحد المسؤولين نفوذه لمصالحه الشخصيّة على حساب المؤسّسة الّتي يعمل فيها. كذلك حالات الرشوة المادّيّة ومقابلها الملموس وغير الملموس، كمعلومات المناقصات وغيرها، وما يدور حولها من عمليّات تدليس وابتزاز يقوم بها أصحاب القرار.
أعمق من الفساد في طبقته الأولى، نجد أنّ اختلاس الأصول أوسع أشكال الاحتيال شيوعًا وانتشارًا، ويعرف أنواعًا متعدّدة منها: اختلاس الأموال من الخزينة، والفواتير المزوّرة، والدفعات الوهميّة، أو سوء استخدام الأصول، وسرقة المستودعات. كذلك تلجأ الحكومات تزوير البيانات الماليّة لتُظهر أداءً ماليًّا بصورةٍ أفضل لتحسين السيولة، وضمان تلقّي كبار المسؤولين المكافآت، والتعامل مع ضغوطات السوق الدوليّة الماليّة، وخلق ثبات زائف ليتماشى مع استراتيجيّات ماليّة غير نزيهة يتمّ توظيفها في مصلحة حملات انتخابيّة برلمانيّة أو غيرها.
في العودة إلى المتاهة اللبنانيّة، نجد أنّها مُخطّطة بدهاء وعناية، ولا سيّما أنّ الّذي هندسها امتلك الوقت الكافي لا لتنفيذها وحسب، بل لزيادة تعقيدها مع الزمن طوال ثلاثين سنة ونيّف. لذا، فهي قد تكون قادرة على تضييع المواطن، كذلك المدقّق الجنائيّ نفسه، إذ يتطلّب منه أن يكون فاهمًا للاحتيالات الممكنة، ويستطيع أن يجمع أدلّة دقيقة كافية لتحديد هويّة المحتال أمام المحكمة، وكشف تفاصيل مخطَّطه، وتوثيق الخسارة الماليّة الحاصلة بالأرقام، والجهات المشاركة في عمليّة الاحتيال، فيجب أن يكون خبيرًا في الإطار القانونيّ والمحاسبيّ.
لكي يكون المدقّق الجنائيّ صائبًا، وقادرًا على الخروج من حيرته بنتائج وأدلّة، عليه ألّا يحصر تدقيقه في مصرف لبنان، بل يدقّق في جميع أنشطة الشركاء الحكوميّين، والمساهمين في صياغة الحصيلة الماليّة النهائيّة، ويقدّمها إلى نظام قضائيّ مستقلّ. لأنّ ما النفع من أدلّة يمكن أن توضع في درج أحد القُضاة ليأكلها التقادم؟
نخاف أن يكون التدقيق الجنائيّ ونتائجه مجرّد ورقة تُستخدم للتلويح بها من بعض الأقطاب السياسيّة في فاصلٍ من التهويل وتشتيت المواطن عن أمور أُخرى، وبالتالي زيادة حيرته. فنجد أنفسنا أمام عمليّة انتقام سياسيّ شرس من دون الوصول إلى غاية التدقيق الجنائيّ المنشودة منذ البداية، فيخرج المواطن اللبنانيّ من هذه المتاهة ببضعة ليرات مستعادة "رقمًا" بعد أن إلتهمَ الزمن قيمتها الشرائيّة. فمن حقّ اللبنانيّ الخروج من هذه العقدة والتنعّم بحياة كريمة راجيًا ألّا ينساه الزمان داخل هذه الحلقة المفرغة فيموت يأسًا قبل أن يموت جوعًا.