ذهبت جائزة نوبل في الاقتصاد لعام ٢٠٢٥، إلى ثلاثة باحثين أعادوا رسم خريطة النموّ الاقتصاديّ، وربطوه بالابتكار المستدام، والثقافة المؤسّسيّة. قابلت البيان البروفيسور ندى الملّاح البستانيّ لتحدّثنا عن هذه الجائزة، ماذا يعني هذا التتويج؟ وكيف يمكن للدول العربيّة والشرق أوسطيّة أن تقرأ الرسائل الكامنة فيه؟
- بداية، من هم الفائزون بجائزة نوبل في الاقتصاد لهذا العام، ولماذا استحقّوا هذا التتويج؟
مُنحَت الجائزة هذا العام لثلاثة أسماء بارزة: فيليب أغيون، بيتر هاويت، وجويل موكير. إذ ساهم كلّ منهم في تفكيك وفهم آليّات النموّ الاقتصاديّ من زاوية مختلفة. فموكير، كمؤرّخ اقتصاديّ، درس الجذور الفكريّة والثقافيّة الّتي مهّدت للثورة الصناعيّة، مؤكّدًا أنّ الابتكار لا يولد في فراغ بل في بيئة تؤمن بالتقدّم، والتعليم، والانفتاح. أمّا أغيون وهاويت، فقد أعادا إحياء نظرية "التزعزع الإبداعيّ" لجوزيف شومبيتر، وطوّراها إلى نموذج رياضيّ يشرح كيف تؤدّي دورات الابتكار والتقادم إلى تحفيز النموّ الاقتصاديّ طويل الأمد، شريطة وجود بنية مؤسّسيّة مرنة تدعم البحث، والتعليم، والمنافسة.
- ما الّذي يجعل هذه الأبحاث مهمّة في السياق العالميّ الراهن؟
نعيش في عالم يتغيّر بسرعة على عدّة مستويات، في الذكاء الاصطناعيّ، والرقمنة، وأزمة المناخ، وتراجع الثقة بالمؤسّسات، وتفاقم الفجوات الاجتماعيّة. هذه الأبحاث تردّ على سؤال محوريّ: كيف يمكن أن يكون الابتكار محفّزًا للنموّ من دون أن يصبح سببًا للتهميش أو التدمير البيئيّ؟
إنّ ما يقدّماه أغيون وهاويت هو منظور متكامل، حيث الابتكار ليس هدفًا بحدّ ذاته، بل وسيلة لتحقيق رفاه إنسانيّ مستدام. فالنموّ بحسب رأيهم لا يتحقّق بإطلاق التكنولوجيا في السوق، بل بتأمين بيئة مناسبة لها، بالتعليم، والبحث العلميّ، والسياسات الذكيّة، والحماية الاجتماعيّة. فهما يدعوان بوضوح إلى الانتقال من سياسات قصيرة الأمد إلى استراتيجيّات تنمويّة طويلة الأمد.
- في ظلّ هذه المقاربة، كيف يمكن للدول العربيّة النامية أن تقرأ هذه الرسائل؟
إنّ الكثير من البلاد العربيّة تمرّ بأزمة متعدّدة المستويات: ماليّة، واقتصاديّة، ومؤسّساتيّة. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل ما تمتلكه من عناصر قوّة كامنة، ففي البلدان العربيّة النامية، المعادلة أكثر حساسيّة. إذ لا تعيش أزمة اقتصاديّة فحسب، بل أزمة معنى، وأزمة فقدان ثقة بالدولة والمستقبل. لكن في الوقت نفسه، لا تزال البلدان العربيّة النامية تفيض بالطاقة الذهنيّة، وبالباحثين، وبالطلاب، وبرواد الأعمال الذين يقاتلون في بيئة طاردة. هؤلاء لا ينقصهم الذكاء، بل السياسات الّتي تحفّزهم. فالإنقاذ لا يأتي فقط من الخارج، بل من تحوّل في طريقة التفكير، وأن نتحرّك من منطق إدارة الأزمة، إلى منطق بناء مشروع جماعيّ للمستقبل.
إذ لا نمّو من دون ثقة، ولا إبداع من دون بيئة تحفّز على المجازفة والاستثمار. فالمطلوب هو إعادة هيكلة بيئة الابتكار في الكثير من البلدان العربيّة، بدءًا من إصلاح الحوكمة، مرورًا بدعم البحث، والتعليم العاليّ، ووصولًا إلى بناء شراكات بين الجامعات والقطاع الخاصّ. كذلك، يمكن لهذه الدول أن تركّز على قطاعات واعدة مثل التكنولوجيا الماليّة، والطاقة المتجدّدة، والزراعة الذكيّة، لتحفيز اقتصاد أكثر استدامة وشموليّة.
- هل من أمثلة عمليّة على السياسات الّتي يمكن اعتمادها في هذا الاتّجاه؟
بالتأكيد. يمكن البدء بإعادة تصميم النظام الضريبيّ بطريقة لا تعيق ريادة الأعمال، بل تشجّع على الاستثمار في الابتكار. كما أنّ رقمنة الخدمات العامّة تُعدّ خطوة ضروريّة لتقليص الهدر، وتعزيز الكفاءة. إلى جانب ذلك، يجب إدماج اقتصاد المعرفة في مناهج التعليم، ولا سيّما في الجامعات، وتحفيز البحوث التطبيقيّة المناسبة بسوق العمل. إذ أنّ النموّ لا يُبنى فقط بالموازنات، بل بالجرأة على التفكير المختلف. فمن دون سياسات إدماج وتدريب، قد يؤدّي الابتكار إلى تعميق الانقسامات. لكن مع الرؤية السليمة، يمكن تحويله إلى أداة للتماسك الاجتماعيّ والاقتصاديّ.
- من منظور إنسانيّ، ماذا تقول لنا جائزة نوبل في الاقتصاد هذا العام؟
الجائزة تُعيد التأكيد على أنّ الاقتصاد ليس علمًا تقنيًّا معزولًا، بل نشاطًا اجتماعيًّا، وثقافيًّا، وسياسيًّا في آن. فهي تكرّم باحثين رأوا في الاقتصاد أداة لتحسين حياة الناس، لا لزيادة الأرباح وحسب. وتذكّرنا بأنّ التقدّم التكنولوجيّ لا معنى له إن لم يترافق مع العدالة، ولا فائدة من النموّ إن لم يكن شاملًا. ما نحتاجه اليوم هو نموذج تنموي إنسانيّ، حيث الدولة ليست "خصمًا للأسواق"، بل محفّزًا لها. وحيث العلم ليس رفاهيّة، بل ضرورة. وحيث الابتكار لا يُستخدم لتسريح العمّال، بل لتطوير قدراتهم.
- ختامًا، ما الّذي تقولينه للاقتصاديّين العرب، وأولئك الّذين يستثمرون في البلدان العربيّة؟
ما تعكسه جائزة نوبل للاقتصاد هذا العام يتجاوز تكريم ثلاثة باحثين. إنّها تذكير بأنّ الاقتصاد لم يعد، ولا ينبغي أن يركّز على الأرقام في المقام الأوّل، بل على الإنسان والمجتمع والتقدّم المشترك. فنحن أمام إعادة تعريف للنموّ، فليس النموّ الّذي يُقاس بالناتج المحلّيّ فحسب، بل النموّ الّذي يُقاس بقدرتنا على توسيع دائرة الفرص، وتحقيق الكرامة الاقتصاديّة، وتثبيت قواعد العدالة في قلب السياسات.
إنّ المعادلة الّتي يقدّمها فائزو نوبل لهذا العام واضحة، إذ لا يكفي أن نبتكر، بل يجب أن نخلق بيئة تحتضن هذا الابتكار، وتوجّهه نحو الخير العامّ. ولا يكفي أن نطلق أفكارًا خلّاقة، بل يجب أن نبني مؤسّسات تثق بالمعرفة، وتؤمن بالحرّية الأكاديميّة، وتُراهن على التعليم لا على التكيّف القسريّ.